يقولون "لا ترحلوا .. !!!"
المونسينيور د. بيوس قاشا
في البدء
منذ أن عرفتُ علمَ الحياة وما يعنيه في دنيا الزمن، وعرّفتني الدنيا بمسيرتها،
لم أجد في منطقتنا العربية والشرق أوسطية فترةَ هدوءٍ وراحةَ بال. فالأهواء السياسية كانت ولا زالت تقذفنا جميعاً من شاطئ إلى آخر، ولم نكن ندرك ـــ وحتى اليوم ـــ شيئاً من هذه الأهداف والاهواء وما غايتها ، بمعنى آخر أن منطقتنا ووطننا ومسيرة إيماننا مرّت ولا زالت تمرّ في مراحلَ صعبة، وفي أغلب الأحيان يصيبنا الإحباط وتعلو أصواتُ الهجرة، ولولا إيماننا بالمسيح الحي وشهادتنا لتربتنا لما بقي مسيحي واحد إلا وهاجر من هذه الأرض الطيبة والتي كانت تدرّ حياةً وخضاراً، واليوم نفطاً وكبريتاً، دولاراً وديناراً، نزوحاً وهجرةً، أحزاباَ جشعة، وخطاباً مميتاً، طائفية وعشائرية، حروباً مرعبة ومخيفة جعلتنا ضحايا وعبيداً لمصالح سياسية ، ولمحاصصة حزبية، للقاصي والداني، للغريب والقريب، للفساد والسرقة، وتفاقمت حتى أصبحنا تائهين في مجال الوجود والبقاء ، ليس إلا.
الرحيل والعويل
نعم، إننا اليوم نقف على مفترق طرق مخيف ملؤه الضياع والخوف وأمام مواقف صعبة ومؤلمة، فالخطر يداهمنا من زوايا شتى ومن أماكن متعددة، وأيامنا تعلن ـــ شئنا أم أبينا ـــ خطرَ محو المسيحيين من هذا الشرق وإبادة وجودهم وتغيير أماكن سكناهم بديموغرافية مزيَّفة ساندتها العشائرية والطائفية ، والأغلبية هي الحربة ورأسها، ولم تترك مجالاً لإعلان حقيقة وجودنا، فبقينا خائفين، معلنين فشلنا في سكوتنا، وتكون الخاتمة والرحيل والعويل.
مكوّن اصيل
مَن منا لا يقول أن المسيحيين كانوا هم الأوائل في هذه البلدان الشرق أوسطية. ومَن منا لا يقول أن هذه البلاد كانت مهدَ المسيحية وبدء رسالتها السماوية. ومَن منا لا يقول أن المسيحية مكوِّن أصيل وقد سبقت الشعوب والقبائل في وجودها وفي مسيرة حياتها ، وفي كتب تاريخ الزمن ... كل ذلك حسن وجميل لأسطر التاريخ، ولكن لقد سئمنا من هذا الكلام لكثرة تكراره فالواقع والدستور وما يحصل يقولون غير ذلك، والحقيقة لا تكمن بالأقوال بل بالأفعال إذ يقول مار يعقوب الرسول "ماذا ينفع الإنسان يا إخوتي أن يدّعي الإيمان من غير أعمال... فالإيمان بغير الأعمال يكون في حدّ ذاته ميتاً" (يعقوب14:2)... نعم، الواقع ليس كذلك مطلقاً.
بيانات ومؤتمرات
نعم، تعرضنا للذبح والطرد والتهجير، وما اقترفه تنظيم الدولة "داعش" بحق المسيحيين والمكونات الأخرى لهو دليل أكيد على تهجيرنا، فقد كان حينها الكثير من أبناء العروبة يتفرجون، وآخرون يصدرون بيانات ويعقدون مؤتمرات ويلقون خطبهم، ونحن لهم كنا شاكرين ، ولكن كل ذلك لم يكن إلا نقطة في محيط وعلى حديد ساخن فلا أثر لها بعد أيام بل بعد ساعات ، وكأنّ كل شيء قد تمّ وأُصلح. فالحقيقة يجب أن تقال، فاليوم الكثير من المسيحيين وفي جميع بلدان الشرق الأوسط والعالم لا يستطيعون التعبير بحرية عن إيمانهم وعيشهم في مجتمعاتهم وهم يكافحون من أجل البقاء والوجود والعيش بسلام في أراضيهم، والعدد لا زال في تناقص مستمر، والاستمرارية هنا ما هي إلا ضياع الوطن وفقدان الوجود والأصالة وطعن مسيرة الحوار كي لا تقوم لها قائمة.
فقدان وثقة
إن عددنا يتناقص بمرور السنين والأيام والأزمنة، ولا أظن هناك مَن يريد العودة بعد أن هاجر وترك وغادر، فمِحنَتَهم كبيرةُ الحجم والمأساة، فهم لم يكونوا ذلك ولكن أجبروهم بشتى الأساليب على فقدان الثقة بأرضهم ووطنهم وهم الذين سكب أبناؤُهم دماءَهم من أجل تربتهم وأرضهم. واليوم ما يعانوه في شرقنا المعذَّب لم يكن بالحسبان وبالصورة التي نحن نحياها، فما هي إلا صورة بائسة لمستقبل قاتم ولأيام ملؤها الغيوم والعواصف، وهذا ما يجعلنا أن نقلق على مستقبلنا ومسيرة إيماننا، وكفانا أن نقول وما نفعله هو عكس ذلك تماماً لأنهم لا زلنا عرضة للاضطهادات والقتل والتهجير شئنا أم أبينا، وانسلاخ مسيحيينا عن أرض آبائهم وأجدادهم ما هو إلا كونهم ضحايا لقادة فاسدين فاشلين، ولمخططات مشبوهة أرادها لنا كبار الدنيا والزمن وأصحاب المعالي والقصور ليشوّهوا سلام مسيرتنا وصفاء إيماننا في حبنا لأرضنا وإنجيلنا وكنيستنا، لأن المسيحي قوته في إنجيله، في مسيحه الحي ، ليس إلا .
البابا فرنسيس
هناك صوت يهدر دائماً دون انقطاع وبشجاعة ملؤها المحبة والغفران والتسامح، إنه صوت كبير الفاتيكان، بابوات روما ومنهم البابا فرنسيس، حيث قال للمشاركين في لقاء حول الأزمة الإنسانية في سوريا والعراق في أيلول الماضي (2018) ما نصّه:"هناك خطر أن يُلغى الحضور المسيحي من تلك الأرض التي منها انتشر في العالم نور الإنجيل. فلا يجوز الاستسلام لظلمات العنف وليحافظوا على شعلة الرجاء متّقدة بنعمة الله ولننظر إلى المستقبل".. إنها الحقيقة في الصميم، فما يحصل يقودنا الى أن نسأل ، هل هو تهميش متعمَّد لإنساننا المسيحي في العراق؟، هل هو تدمير لتاريخنا الحضاري الموغل في القِدَم والسنين والأزمنة؟، هل هو محو لديانة من أقدم الديانات التي نادت بالتوحيد؟، هل نحن في زمن يخبئ تحت عباءته طائفيتَه وفساده فيقيم صراعاتٍ دموية وعشائرية وحتى إيمانية لتحقيق مآربه وإعلانها؟... إنها ظلمات العنف ليس إلا!.
في الختام
ختاماً أقول: نعم، لقد تضاءل عددُنا وهذا لا يعني ضياعنا ورحيلنا بل على الإسلام أولاً حماية البقية الباقية من أجل ضمان بقائهم وحقوقهم. فالعديد من الذين رحلوا يتردّدون في العودة إلى موطنهم الأمّ، ولا يفكرون إلا بالبقاء في الغربة لأسباب عديدة منها الوضع الأمني الذي يعيشه شرقنا المعذَّب. وهناك، أي في الغربة، يجدون ضالّتهم حيث كل إنسان له قيمته وحقوقه، له كرامته وإنسانيته في حرية إيمانه وممارسته لعقيدته دون خوف وعلانية، فلا يحكمه إلا قانون الوطن والدولة الذي يحميه من جميع التعرضات والمعاكسات بل أكثر من ذلك "إنه خُلق على مثال خالقه" ( تك27:1). ويقول الكتاب:"إن الله رأى كل شيء حسن" ( تك31:1). فنحن لسنا بحاجة إلى عودة داعش بنسخ أخرى أو بصراع طائفي فقد أكلتنا نارُ الحروب والصراعات وأخاف أن يؤول البلاد إلى الغرباء عاجلاً أم آجلاً.
شكراً..وكفانا وعوداً، بل بالأحرى نحن بحاجة إلى تثبيت وجودنا. أعملوا ... ولا تقولوا بعدُ "لا ترحلوا ، بل قولوا هذا وطنكم، سنكتب دستورنا معاً ، أعلنوا فيه وجودكم". واعملوا معنا كي نحمي تراث آبائنا وأجدادنا، وحضارتنا وكنوزها الروحية والزمنية، وما عليكم إلا العمل والاجتهاد في سبيل ذلك. ولا تجعلوا مسيحيتنا تمزقها الحروب التي لا ناقة لنا فيها ولا جمل فنتيه في المجهول،مثل نزوحنا في زمن داعش الارهاب، ولم نعد نحتمل ما حصل وما حلّ بنا ، وهذه حقيقتنا، فأملاوا قلوبنا الامل والرجاء واعملوا من أجلنا وأشهدوا لاصالتنا وليس لهجرتنا ، ولا تخافوا أن تقولوا الحق فالمسيح الحي يقول " قولوا الحق والحق يحرركم " ( يو 32:8) وجبران خليل جبران يقول " يا رب ساعدني أن أقول كلمة الحق في وجه الاقوياء وألا اقول الباطل كي أكسب تصفيق الضعفاء " والمهاتما غاندي يقول ايضا " حتى وإن كنتم أقلّية تبقى الحقيقة حقيقة " !والقرآن الكريم يقول " وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهَ "( صورة البقرة آيه 282)...نعم وامين .