وكم من طيبات قبعنْ مثلها!
تقول صديقتنا: طيبتي الزائدة عن اللزوم وثقتي العمياء بمنْ حولي هي من جعلتني أنخدع بسهولة بكلامهِ الذي كلهُ مكر وكذب وازدواجية، وأنا لا أعلم! قال لي: أحبك، وهو يضمر لي كل حقدٍ! خدعني بكل سهولة، رسم صورة خيالية لنفسهِ في مُخيلتي وأحاطها ببرواز من ذهب وفضة، أوهمَ نفسهُ وأوهمني معهُ، لم أخذ حيطتي وحذري، لم أفكر أنهُ سيأتي يوم ويتركني فجأة! لم أكنْ أملك من الفطنة بحيث أعرف ما يدور في خبايا فكرهِ المريض! وكيف لي أن أعرف وكل كلامهِ يدل على عكس أعمالهِ؟! نواياه لمْ تكنْ ظاهرة، ومقاصدهِ لم تكنْ مُعلنة، كان يتفننُ بالحيلِ وبترتيب الكلام وتزيينهِ!
يا للمفارقة ويا للزمن، كم كنتُ ساذجة ولم أُحكم عقلي قبل عواطفي، ولم أتصور يومًا أن أكون في هكذا موقف؟! آهٍ لو كنت أعرف ما في دواخلهِ من شرٍ دفين نابعٍ من بُغضهِ لذاتهِ! آهٍ لو كنتُ عرفتْ من البداية نوع طينتهِ الممزوجة بكل الأعمال الشريرة والأفكار السلبية! لكنت قلت لهُ أنتَ لا تستحق أن تُدعى إنسانًا؟! أنتَ لا تستحق أن تُدعى رجلٌ بين الرجالِ؟! أنتَ لا تستحق أن يُعطف عليكَ؟! أنتَ إنسانٌ حيٌّ بجسدهِ وميتٌ بروحهِ! وتبًا لزمانًا أصبحتْ فيهِ الشياطين تُمثل دور الملائكة بجدارةٍ.
نقول لصديقتنا:
التي أنهتْ حكايتها وحديثها وحيرتها وآلمها وحزنها وشجنها وصدمتها بشيءٍ من الأختصار، لا تحزني ولا تيأسي ولا تُحبطي من نفسك لتثبتي نجاح غيرك، لأنهُ اكتشفت في لحظة مُوجعة أن طيبتك ونقاء قلبك تحول إلى جسر لعبور أناس أنتهازيين لتكوني ضحية خبثهم ومصلحتهم الأنفرادية! بل أسعدي لأنك أفضل منهم وتمتلكين طيبة والتي هي مبدأك وأخلاقك وإنسانيتك والمُترفعة عن الأذى وعن كل السلبيات الأخرى.
ونحن حديثنا لمْ ينتهي بعد، بلْ سنبدؤهُ ونُعطي فكرة مُبسطة عن موضوع قلمْا سلطتْ الأضواء عليهِ، موضوع غاية في الأهميةِ والخطورة ألا وهو موضوع الطيبة التي تفهم من قبل البعض بأنها سذاجةٍ وغباءٍ وبسببها يُستغل البعض بدون إدراك، ومن خلالها سنعرف من هم الأكثر ضرراً بها.
في هذا الزمان، الناس تنوعت مقاصدهم واختلفت نواياهم وبتنْا لا نعرف أن نميز بين الألوان. وصديقتنْا التي تكلمتْ عما يدور في خلجاتها وحيرها، لم تكنْ تمتلك الخبرة الكافية بالحياة وبالناس، لم تكن واعية لحقيقة ما يدور حولها، كان لديها ثقة وطيبة قلب زائدة لدرجة أطمئنت لمنْ ظنتْ في يوم أنهُ يحبها لذاتها، ولم تفكر في يومًا ما بأنها ستكون ضحية أنانية إنسان لا يملك ضمير إنسانًا. ظنتْ أن جميع الناس مثلها لهم مبدأهم في الحياة، وصادقين، مُخلصين، مُتسامحين، عفويين، تلقائيين وشفافين في التعامل، بُسطاء وغير مُنافقين، يفضلون مصلحة الغير قبل مصلحتهم، يحبون الآخرين ويتمنون لهم الخير ويسعون إلى مُساعدتهم، يعرفون معنى أن يكون الإنسان إنسانًا بدون أقنعة. ولكن صدمتها كانت أكبر بالواقع الذي اصطدمت به وجعلها تفتح عينيها على حقيقة مُرةٍّ، آلمتها أشد الألم، حقيقةٌ كشفتْ لها كم كانت ساذجة وضعيفة ومخدوعة وغير مُدركة للواقع والحياة وللمُحيطين بها، كانت تتصرف من مُنطلق براءتها.
فهي من جانب معذورة ومن جانب آخر كانت السبب فيما حصل لها ومُخطئة، لأنها فكرت بعواطفها ولم تُحكم عقلها، أعطت ثقتها لإنسان لا يملك ثقة بنفسهِ، فكيف سيكون أمينٌ ويحافظ عليها. وبالنتيجة أصبحتْ بدون إرادتها واحدة من بين الآلاف الفتيات اللواتي قبعنْ خلف قضبان الألم والمرارة والحسرة لسنين طويلة من عمرهم، نتيجة مُعاناتهم وشعورهم بالصدمةِ والإحباط وبرخص الروح البشرية وبسبب استدراجهنْ والضحك عليهنْ وأوهامهنْ بكلام الحب والوعود الكاذبة من قبل البعض من النفوس الضعيفة الذين لا يقدرون معنى قيمة حياة إنسانة! وهو الآخر بدورهِ كان إنسان أناني غير مُهتم ألا بإرضاء غروره وأنانيتهِ وذاتهِ على حساب تعاسة إنسانة لم يكن لها أي ذنب سوّى كونها طيبةٌ زيادة عن اللزوم.
فعلاً أصبح أمر مُحير! اختلطت الأمور وتشابكتْ في حياة البعض من إنساننا الذي يرغب في كل ممنوع في الحياة ويسعّى إليهِ حتى لو كان على حساب الآخرين وحتى لو كان يعرف بأن ما يفعلهُ لا يرضي ربٍّ أو ضمير. مع الأسف للبعض الذي لا زال يعتبر الصدق في التعامل وحسن النية من ضعف النفس والعقل، حتى باتتْ الطيبة والشفافية والتعامل مع الناس بالفطرة وعلى الطبيعة دون تملق وتزييف تعتبر سذاجة وغباء. أن يكون الإنسان على حقيقتهِ ويتعامل مع الغير بطيبة قلب وبدون نوايا خفية في نفسهِ، فهذا لا يملك مكان في هذا الوجود ويجب استغلالهِ وإفسادهِ! إذن كيف يكون التعامل مع الآخرين ومع المُجتمع؟
بالخداع والمكر أم بالنفاق والكذب أو بكسب سعادتي على حساب هدم حياة أخرى يافعة بدون مُبالاة أو شعور! فعلا باتْ أمر مُحير وغريب وليس لدينا إجابة صريحة عن كل ما يدور في فكرنا من تساؤلات حول هذه الحياة المليئة بالمُتناقضات بسبب إنسانها. لا نعرف هل يجب أن نكون مُخادعين ومنافقين ونتلون بمختلف الألوان لنُسْاير الناس والمجتمع؟ هل يجب أن نضع قناع على وجهنا لنخفي وجهنْا الحقيقي؟ هل يجب أن نكون نسخة منهم ونتطبع بطباعهم حتى لو كانت نفسهم مريضة؟ لا نعلم أيضًا هل هذه الطيبة تسبب الاهانة وعدم إحترام مشاعر الغير وإستغلالهم؟ وهل الطيبة لها أوقات مُحددة ومُعينة للتعامل بها؟ أسئلة كثيرة لا تنتهي وتبقى بدون أجوبة، ولكن نقول دائمًا وأبداً يجب أن يكون الإنسان حريصًا من كل شيءٍ وأي شيءٍ في الحياة.
أذن من كل هذا، من هو الأكثر ضرراً وضحية؟ بالطبع أنها المرأة! بسبب طبيعتها كأنثى ولأنها أكثر شفافية وحنان من الرجل وبسبب غريزة الأمومة التي تحملها. ولأنها طيبة فكلمة جميلة تجعلها شفافة ومرنة وكلمة قاسية تجعل منها مُتمردة وثائرة. ونقول للرجل، المرأة لا تستحق منك هذا، فهي من تكون بجانبك وتُساندك وتسندك منذ ولادتك حتى تشيخ! فكنٌّ مُعينًا وبانيًا لها لا هادمًا لها، وكن أميناً ومُحافظًا عليها، فهي خلقتْ من ضلع من أضلاع جنبك الأيسر، لتكتمل بها وهي تكتمل بك، ومعًا تُكملان مسيرة الحياة البشرية. فهي لمْ تخلق من قدمك لتمشي عليها وتدوسها ولا من رأسك لتتعّالى وتتكبرَّ عليها، بلْ هي خلقتْ من ضلع منك لتتساوى معك وبك وضلع قريب من قلبك لكي تُحبّها وتُشعرها بحنانك وتظمُها بين ذراعيك و تحميها فتعيش معك سعيدة ومُطمئنة ومعها أنتَ تسعد.
وتبقى الحياة على مرّ العصور المُختلفة هي الحياة بتناقضاتها وازدواجيتها وغرابتها ومعها إنساننا الذي لهُ نواقصهُ وسلبياتهِ وإيجابياتهِ التي يُصقلها ويُهذبها مع الآخر. وجميل أن نرسم صورة جميلة للحياة نعيشها ونتعايشها مع الآخرين، ولكن تكون من مُنطلق الاحترام المُتبادل والحوار الثقافي والتكامل وليس من مُنطلق الأنانية الذاتية والانتهازية والمكرّ والخبثّ والتسلق على أكتاف الغير.