والخلائق تسبح بحمده " الخبز "
والخلائق تسبح بحمده " الخبز "
نعم ، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى ، حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية ، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية ، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي ، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى . فعبرَ مقالات من " والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة .
أيها الرب، لقد أوصيتَنا أنْ نطلبه كلَّ يوم "أعطنا خبزنا كفاف يومنا( متى 13:6) !. والوثنيون، والذين لا إيمان لهم، لا يزالون يحتفظون بقَدْرٍ من الاحترام لقطعة خبز ساقطة على الأرض. ونحن نوصي أطفالنا الأبرياء ألاّ يرموا الفُتات على الحضيض بل أنْ يضعوا فضلة لقمتهم في مكان مرتفع على جدار أو على حافة نافذة، كيلا تُداسَ بالأقدام، بل ربما تكون قوتاً لطيور السماء. الذين يأكلون من موائد الناس دون أن يعملوا، نحن ندعوهم تنابلة وكسالى، ونعتبرهم طفيليين يعيشون عالةً على المجتمع، وإن الرجل هو الذي " يأكل خبزه بعرق جبينه" (تك 3: 19 ) كما إننا نعتبر الذي يمتنع عن مشاركة الآخرين بخبزه أنانياً وغليظ القلب إذا كان شخصاً، واحتكارياً استعمارياً إذا كان دولةً. وقد اعتاد الروس أن يقدّموا الخبز للضيوف مصحوباً بالملح.
أما بالنسبة لنا نحن المسيحيين، فإن للخبز رمزاً آخر أسمى وأعمق: إنه المادة التي صنعتَ منها سرّ قربانكَ المقدس. لقد وقع اختياركَ يا سيدي على القمح من دون جميع المخلوقات لكي يصبح أعظم لغزٍ لحضور الله بين البشر. وكم نحن بعيدون عن المعنى الحقيقي للخبز إذا استقرّ فكرنا فقط على العجينة المطاطية التي بعد فترة تخرج من الفرن أو التنّور على شكل رغيف. أنا لم أبذر قمحاً أبداً، ولم أحصد، ولم أعجن، ولم أخبز رغيفاً طيلة حياتي، لكنني كنتُ دائماً أتناول الخبزَ جاهزاً من أيدي الآخرين، وإن لم أكن أعرفهم، لا في وجوههم ولا في أسمائهم، ولربما سوف لن ألتقي بهم أبداً... كنتُ أكتفي فقط بِقَطْع الخبز وبلعه من دون التفكير بتاريخه العجيب الذي ابتدأ قبل العصر الحجري بملايين القرون عندما قامت السلالات البشرية الأولى بتدجين الفصائل النباتية المتوحشة والذي دعته بعض شعوبها بالنجيليات التي تُعرف اليوم باسم "الحبوب". وأنا اليوم أجد من الطبيعي أن ينال كل إنسان حصّته الكافية من الخبز ليعيش. أما في فترات القحط أو الفيضانات والحروب عندما توزعه السلطات الحكومية بموجب البطاقة التموينية، فأبدأ بالهيجان والعويل، ومع ذلك فإن كل قطعة خبز سمراء أو بيضاء تستطيع أن تتلو قصيدة مدح لخالقها!.
في التوراة نقرأ أن الكهنة اللاويين كانوا يقرّبون "خبز التقدمة" فوق المذبح من أجل الشبع( لوقا 4:6 ) . وفي الإنجيل حَدَّثْتَنا يا سيدي عن ملكوت السماوات الذي يشبه خميرةً أخذتْها امرأةٌ ووضعتْها في ثلاثة أكيال من الدقيق حتى اختمر العجين كله (متى 33:13). أَوَ لستَ أنتَ يا سيدي الذي ضاعفتَ الخمسة أرغفة والسمكتين، وأشبعتَ خمسة آلافٍ من الجائعين (متى21:14)؟.
الخبز!، لقد اختَبرتَه مراراً يا سيدي، فمسَكْتَه بيديكَ وقطعتَه ووزَّعتَه على الناس( الجموع ) بعد أن باركته (لوقا 31:24)،وهذه كانت علامتك الفارقة يا ربي والهي ، أكلتَه معهم، تذوَّقتَـه وعرفتَ نكهته!، وأخيـراً... اندمجتَ به في كينونة واحـدة حيث أصبحتَ أنتَ نفسكَ طعاماً للبشر،" خبزاً للحياة" (يو 35:6)، وحياةً للأرواح،" لمّا أشتهيته أن تأكله معنا "( لو 15:22) ، خبز السماء الذي يدعوه المسيحيون "القربانة" أو "البرشانة"... خبز الحياة الذي" يمنعنا من الموت" (يو50:6)، ويمنع الموت من الاقتراب منا. إن هذه "البرشانة" الصغيرة قامت بردم أعمق هوّة كانت سابقاً تفصل بين الله والإنسان. فقديماً عندما كنتُ صبياً قيل لي أن هنالك سوراً أكبر ارتفاعاً من سور الصين يفصل بين الخالق والمخلوق، وإن اسم الجلالة يجب ألاّ يُلفَظ أبداً بسبب قدرته الفائقة وعظمته الغير المحدودة، وإن الفلسفة الأكوينية الأوغسطية تعرّفكَ على أنكَ "الجوهر الخالص المحض" أو "المحرّك الأول"، بينما أنتَ نفسكَ اخترتَ قطعة خبز اعتيادية لتعريف نفسكَ للبشرية بواسطة هذا الغذاء اليومي الضروري البسيط، وأعلنتَ أن أساس حضوركَ في العالم ليست براهين السببيّة ولا نظريات العلّة والمعلول بل الخبز فقط، وإنكَ أنتَ "الخبز الحقيقي، مَن يأكلكَ لا يجوع إلى الأبد" ( يو51:6).
بدون خالق لا يوجد قمح ولا حبوب، وبدون الإنسان لا يوجد خبز. وهكذا اشتركتْ أصابع الله الخفيّة مع أصابع الإنسان بصمتٍ ومحبة في تكوين "الرغيف". أنا لا أرتاح لبعض الصفات التي تُلصَق باسم الجلالة عندما يقال:"الله الممتنع والبعيد والغير القابل للإدراك"، لأن في الواقع لا شيء في الوجود أكثر بساطة من الله، ولا أكثر قرباً إلينا منه. رُبَّ طفلٍ أو طاعنةٍ في السنّ أو أي رجلٍ أُمّي يفهمكَ بالحدس والتخمين أكثر من دارسي علوم اللاهوت المنكبّين على أكداس المجلّدات!.
بينكَ يا سيدي وبين البشر الفقراء والبسطاء ، لا توجد حواجز ولا مسافات، لأنكَ تختلف عن الملوك والسلاطين والرؤوساء وكبار دنيانا وزمننا والذين يجلسون على عروش فوق مستوى سطح الأرض، أكثر ارتفاعاً من عامة الناس، بل فوق مستوى البشر بكبريائهم وربما بفسادهم ويضعون حرساً على أبوابهم، وعساكر ترافقهم، ومفتشين يفتشون مَن يطلب رؤيتهم خوفاً من!، واستعلامات قبل مواجهة الناس لهم، وما ذلك إلا بدافع الخوف من أن يكتشفهم الناس على حقيقتهم. أما أنت يا الهي ، ونورك فلا يحتاج إلى جميع هذه التحوطات، لأنه يخترق جميع الأشياء بخط مستقيم، ويضيء أعماق البحار بدون أن يتبلّل.
أشكرك يا سيدي، لأنكَ علّمتَني أنْ أراكَ على حقيقتكَ بكل بساطة بعيداً عن مظاهر الأُبّهة. من يوم الخليقة حتى مجيئكَ إلينا لتخلّصنا، كانت أعمالكَ جميعها بسيطة، بلا طبول ولا أبواق وبدون أُبّهة ولا حمايات ومرافقين . وقد قيل أنّ الفن يقترب من الكمال كلما اقترب من بساطة الحياة وابتعد عن التصنّع والتعقيد والكبرياء والغرور. هكذا هي أيضاً نِعَم الله للبشر، فإنها لا تلمس القلوب إلاّ بالانسجام الروحي الصامت وفي الوحدة مع الله. مثل نغمة صافية عذبة تخترق الأفئدة وتهزّ أوتارها... هكذا يا سيدي عندما مَدَدْتَ يدكَ وكسرتَ قطعة الخبز وقدَّمتَها لتلميذَي عمّاوس (لو30:24)، فانفتَحت أعينهما وصارا يفهمانكَ بغتةً أكثر من ذي قبل بدون ضجّة ولا كلام" بعد ان فأُمسكت أعينهما " لقلة إيمانهما ( لو31:24)!.
نحن نريد أن نثبّت كل شيء بالنظرية والبرهان، وأنتَ تجاوزتَ كل البراهين واكتفيتَ بالخبز لتبرهن به كل شيء، فجاءتْ نتائجكَ مضبوطةً مئة بالمئة، وغيــر متوقعة لمنطقنا المعقّـد الأخرق، والمغرور، ونحن لكي نجدكَ فيما بيننا يكفي أن نمدّ يدنا كما مَدَدْتَها أنتَ، ونكسر الخبز معكَ، ونوزعه فيما بيننا بدون إلقاء محاضرة أو موعظة طويلة.
وبعد كل هذا، فإن الشيء الذي يبقى غامضاً وغير مفهوم لدى البشر، هو أنهم يحتاجون إلى إشارة صغيرة منكَ تدلّهم على أنكَ قريب جداً منهم.ولكنهم !!! نعم يا سيدي أنت خبزنا وكفاف يومنا( متى 11:6) . فيارب " أعطنا منه كي لا نجوع أبدأ(يو 15:4) ، " لانك النازل من السماء"( يو 21:6) من أجل خلاص الانسان . نعم وامين .