هي حتى تترك الاثر
الناس على نوعين ازاء المعرفة، الاول هو الذي يسلم بها لحظة الاطلاع عليها فلا يكابر او يتجبر، الثاني هو الذي تاخذه العزة بالاثم حتى اذا كانت ساطعة كنور الشمس.
النوع الاول يحدثنا عنه القران الكريم فيصفه بقوله {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}.
اما النوع الثاني فيتحدث عنه القران الكريم بقوله {قَالُوا سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ}.
واذ يودعنا شهر الله الفضيل، شهر رمضان المبارك، ينقسم الصائمون الى قسمين، الاول هو الذي يدخل الشهر ويخرج منه بلا اي تغيير، وكان شيئا لم يكن، اما الثاني فيدخل الشهر بشخصية ويخرج منه باخرى تختلف جذريا عن الاولى، نحو الاحسن والافضل في كل شيء.
الاول لا تترك العبادة في شخصيته اي اثر، والثاني تترك فيه الكثير من الاثر، وربما كل الاثر.
ليس لان الاول لم يؤد الواجبات والفرائض في هذا الشهر، او انه لم يختم القرآن الكريم او يتضرع الى الله عزوجل بالصلاة او بقراءة الادعية الماثورة، ابدا، وانما يعود السبب الى امرين مهمين، الا وهما:
الف: انه يظن بان العبادات مطلوبة لذاتها، فيكفي مثلا انه يصلي او يصوم او يحج او يتصدق او ما الى ذلك، وهذا فهم خطير يحول الانسان الى آلة تؤدي الذي عليها من الفرائض بلا روح {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ}.
باء: انه يتصور بان هذه العبادات وامثالها مطلوبة ببعدها الشخصي فقط، فيلغي البعد الاجتماعي عنها ولا يعيرها اي اهتمام، ناسيا او متناسيا ان ادائه للفرائض شأن شخصي حصريا، لا دخل لاحد فيه، ما لم تترك اثرا على البعد الاجتماعي في حياته.
اما الحقيقة فخلاف هذا الفهم بالمطلق، فليس في الاسلام فريضة ارادها المشرع لذاتها، بمعنى انه فرضها على الانسان فقط ليؤديها وكفى، ابدا، حتى الايمان، فهو ليس مطلوبا لنفسه، وانما لعلة اخرى اعظم واهم منه، ولذلك لم يذكر القران الكريم كلمة الايمان الا مشفوعة بالعمل الصالح، كما في قوله تعالى في عشرات الايات {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} ما يعني ان الله تعالى شرع الايمان لعلة اهم الا وهي العمل الصالح، والا ما فائدة ان يكون المرء مؤمنا بالله ويعتدي على حقوق الناس او يتجاوز على المال العام او يكذب او يغش او يكفر الاخرين ويحرض على قتلهم وذبحهم وتفجيرهم وتدمير البنى التحتية للبلاد؟.
وقس على ذلك كل اسس واعمدة الايمان الاخرى وعباداته، والتي عللت فلسفتها بنت رسول الله (ص) فاطمة الزهراء عليها السلام في خطبتها المعروفة عندما قالت {فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس ونماءً في الرزق، والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحج تشييداً للدين، والعدل تنسيقاً للقلوب، وطاعتنا نظاماً للملّة، وإمامتنا أماناً من الفرقة، والجهاد عزّاً للإسلام (وذلاً لأهل الكفر والنفاق) ، والصبر معونة على استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة، وبرّ الوالدين وقاية من السخط، وصلة الأرحام منسأة في العمر ومنماة للعدد، والقصاص حقناً للدماء، والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة، وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس، والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس، واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة، وترك السرقة إيجاباً للعفّة، وحرّم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبية، فاتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وأطيعوا الله في ما أمركم به و ما نهاكم عنه، فإنه إنما يخشى الله من عباده العلماءُ}.
ولقد وردت الكثير من الاشارات الى هذه الحقيقة في اكثر من آية او حديث عن رسول الله (ص) او في اقوال ائمة اهل البيت عليهم السلام، فلقد بشر رسول الله (ص) امرأة صائمة بالنار لانها حبست قطتها عن الماء فماتت عطشا، كما انه دعا اخرى الى ان تفطر في شهر الصيام، شهر رمضان الكريم، لانها ذكرت جدارتها بسوء امامه (ص) فلو كان الصوم مطلوبا لذاته لما فعل رسول الله (ص) ذلك اليس كذلك؟.
ولعل من اجلى الاشارات في هذا الصدد قول الله عز وجل يصف الصلاة بقوله {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} بمعنى ان الصلاة التي لا تنهى عن الفحشاء والمنكر هي ليست بتلك الصلاة التي شرعتها السماء، ولذلك نرى ان القران الكريم لا يذكر الصلاة بصفة الاداء وانما بصفة الاقامة، وفي الزيارات الماثورة عن المعصوم لائمة اهل البيت عليهم السلام نكرر الجملة {واقمت الصلاة} ولم نقل واديت الصلاة، لان اداء الصلاة امر ميسور عليه يمكن لكل انسان ان يحققه من خلال الحركات المعروفة والتي تشبه الى حد كبير حركات الرياضة السويدية التي يمارسها الانسان لتحريك الدم في جسمه وتنشيط عضلاته، اما الاقامة فتعني ان تترك الصلاة اثرا على حياة الانسان من خلال الالتزام بما تفرضه الصلاة عليه من التزامات اجتماعية وواجبات وحقوق ازاء الاخرين، اي بما تترك من اثر في البعد الاجتماعي.
المشكلة تكمن في ان الكثير مما نؤديه من عبادات او نسمعه من كلام او نقراه من علم لا يترك فينا اي اثر، فلا يغير من سلوكياتنا ولا يبدل من عاداتنا السيئة ولا يحول حالنا نحو الافضل، وكل ذلك يشير الى اننا نمارس العبادات كعادات تعودنا عليها منذ الصغر، فهي لا تعني بالنسبة لنا اكثر من حركات سويدية او محاولات لتقليل الوزن مثلا او ما اشبه.
اننا من اكثر شعوب الارض تعاطيا بالدين ومحتوياته ومتعلقاته، ولكننا في نفس الوقت من اسوء شعوب الارض وعلى مختلف الاصعدة؟ لماذا؟ الا يشير ذلك الى تناقض صارخ بين القول والفعل؟.
ترانا على طول العام نشتغل بالدين اكثر من انشغالنا باي شيء آخر، بل ان حياتنا كلها دين في دين، قراءاتنا دينية، وحواراتنا دينية، وخلافاتنا دينية، ومسموعاتنا دينية، واشعارنا دينية وقصائدنا دينية وخطبنا دينية وكتبنا دينية وسفراتنا الترفيهية دينية، وان مناسباتنا الدينية طوال العام اكثر من اية مناسبات اخرى، تبدا مع بداية كل عام ولا تنتهي، وان ما نسمعه من محاضرات ومواعظ دينية يفوق ما نسمعه في المدارس وبمختلف المراحل الدراسية عشرات المرات، ومع كل هذا فان حالنا وواقعنا لا يحسدنا عليه ابدا لا صديق ولا عدو، لماذا؟ لان كل ذلك لا يترك اثرا في نفوسنا وفي سلوكياتنا، فكل شيء نفعله لذاته، حتى الخطيب او المحاضر او العالم او الفقيه او خطيب الجمعة، الذي يعظ غيره بالكلام، لم تلمس في حياته الشخصية والاجتماعية اي اثر لما يقوله ويتحدث به، وكم اتمنى ان يحاضر هؤلاء على انفسهم ولو لمرة واحدة قبل ان يحاضروا على الاخرين، فقد تنفعهم مواعظهم لينتفع بالتالي بها المجتمع.
تعالوا، نقرر ان نبحث عن الاثر اكثر من بحثنا عن المقدمة، عبادة كانت ام موعظة ام اي شيء آخر، فليس المهم ان تمارس الواجبات او تصغ الى متحدث في الله، انما المهم ان تجد اثر ذلك في حياتك وسلوكياتك، لنغير ونبدل ونصلح واقعنا المريض، على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع.
قيل ان اعرابيا جاء الى رسول الله (ص) طلبا لتعلم القران الكريم، فامر الرسول احد اصحابه بان يعلمه ما تيسر من آيات الذكر الحكيم، بدا الصحابي درسه مع الاعرابي في قوله تعالى {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} عندها نهض الاعرابي وسلم على الصحابي منصرفا، فقال له الصحابي، مهلا لم نبدا الدرس بعد، فرد الاعرابي بقوله: لقد فهمت ماذا اراد الله وانصرف.
اما اليوم فاننا نقرا القران الكريم عشرات المرات في العام بل ان كثيرين منا حفظه عن ظهر الغيب ونصغ الى الوعاظ مئات المرات ونصلي كل الصلوات الواجبة والمستحبة والمندوبة ومع ذلك ترانا يقتل بعضنا بعضا ويكفر بعضنا بعضا ويعتدي بعضنا على البعض الاخر، لم نتعلم كيف نتحاور ولم نتعلم كيف نختلف وكيف نحل خلافاتنا، ولم نتعلم كيف نقرا وكيف نطلب العلم واي نوع من العلم وكيف ننشر ثقافة الحب والتعاون والاخوة، لا زلنا مسكونين بالاستبداد ولا زلنا نصنع الديكتاتوريات، نعبد الاشخاص ونقدس الذوات على حساب الحقيقة والعقل، حرية التفكير مقموعة والراي الاخر ملغى، مرجعياتنا مختلفة وفقهاؤنا تكفيريون ومثقفونا امعات وكتابنا جاهلون واصحاب الاقلام ماجورون، مشاكلنا الاجتماعية لا نحسد عليها، فنسبة الطلاق لا تطاق وانتشار الفساد الاخلاقي لا يتحمله مجتمع موزون، وضحايا العنف الاسري لا يعدون، فتاوى التكفير والقتل والتفجير والتدمير اكثر من فتاوى المحبة، المال العام يسرقه من يدعي الدين، وحقوق الانسان يعتدي عليها من يدعي الانتماء الى رسول الله (ص) ويفسد من يصلي ويصوم ويحج، الجهل فينا حاكم والتخلف مسيطر، وكأن الدين امرنا بكل ذلك، فالى اين نحن ذاهبون يا ترى؟.
اذا لم نقرر الانتباه الى الاثر فان حالنا من سيء الى اسوأ، فالى متى نلتزم بالقشور ولا نعير اللباب اي اثر؟ الى متى نقدس المظاهر ولا نهتم بالجوهر؟ الى متى نؤدي الصلاة ولا نقيمها؟.
ان الاثر هو الذي يغير الانسان ـ الفرد والانسان ـ المجتمع، واذا لم يؤثر البعد الفردي في البعد الاجتماعي في حياة الانسان فلن ينفعه كثيرا، لان الفرد بمجتمعه وليس بفرديته.
مشكلتنا اننا نهتم بانفسنا كافراد ولا نهتم بانفسنا كمجتمع، ولذلك، يضيع الفرد الصالح في المجتمع الطالح، والفرد السليم في المجتمع السقيم، وهذا هو حالنا وواقعنا، ولتغييره لا بد من الاهتمام بالبعد الاجتماعي كاهتمامنا بالبعد الشخصي وعلى مختلف الاصعدة، والى هذا المعنى اشار رسول الله (ص) في الحديث الشريف {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الاعضاء بالسهر والحمى} وانما شرع الاسلام الامر بالمعروف والنهي عن المنكر للنهوض بالمجتمع بعد اصلاحه وليس بالفرد فحسب، كما اشارت الى هذه الحقيقة فاطمة الزهراء عليها السلام في خطبتها المعروفة اذ تقول {والأمر بالمعروف مصلحة للعامة}.
5 آب 2013
NHAIDAR@HOTMAIL.COM