نشيد موطني والأَخوَان فليفل
لا يعرف كثيرون أصل نشيد موطني الذي ظلوا يرددونه على مدى عقود من الزمان، ولا سيّما في مرحلة النهوض الثوري، ضد الاستعمار ومن أجل الانعتاق والتحرّر والاستقلال، وقد استعاد العراقيون بعد خلاف عقب الاحتلال نشيد موطني، فما هو أصله؟ ومن قام بوضع كلماته؟ ومن لحّنه ومن أدّاه؟
ربّما لايزال كثيرون أيضاً يجهلون “الأخوان فليفل” محمد وأحمد اللذان أدّيا هذا النشيد، بل وجعلا له رمزية وطنية مقدسة على المستوى الشعبي، ولعلّ ما قدّماه من جهد موسيقي إبداعي رائع على المستوى العربي، أسهم في إذكاء الروح الوطنية وفي إعلاء شأن الهوّية وفي لحمة الأمّة العربية .
فحتى انطلاقة الأخوين فليفل كانت المدارس والمحافل في العالم العربي تهتف للسلطان العثماني وتدعو له بالنصر وللدولة العثمانية بالعزّ والسؤدد، ولكن المزاج الشعبي العربي بدأ بالتغيّر والتحوّل منذ أن انتشرت أناشيدهما الوطنية والقومية، ولا سيّما بعد فترة تململ وإرهاص عاشتها المجتمعات العربية المتطلّعة إلى التخلص من ربقة التبعية .
وقبيل انتهاء عهد الهيمنة العثمانية وبداية الحرب العالمية الأولى ومن ثم الانتداب المفروض على عدد من البلدان العربية بعد تجزئتها، شهدت المنطقة نوعاً من الأناشيد والأشعار ذات الطابع التجريدي التي تتحدث عن حب الوطن، في حين كانت مرحلة الأخوان فليفل تعبيراً عن توجهات وطنية وأبعاد قومية، تدعو:* إلى التحرر من الاحتلال، وتحثّ على التمرّد والنهوض، وتحاول إدخال الحماسة إلى النفوس، لاسيّما الشباب، والتخلّص من عقدة الخوف التي أدت إلى الاستكانة .
ويمكن القول إن نشيد “موطني” هو النشيد الوطني للأمة العربية، حيث انتشر وشاع على نحو شامل في كل من لبنان، وسوريا، والعراق، ومصر وفلسطين . والنشيد من كلمات الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان حيث كان الأخوان فليفل قد تعرّفا إليه حين كان طالباً في الجامعة الأمريكية، وذلك في منزل الشاعر عبدالرحيم قليلات، ثم قاما بتلحين النشيد وأدائه، وهكذا انتشر نشيد موطني مثل النار في الهشيم:
موطني . . موطني
الجلال والجمال والسناء والبهاء
في رباك في رباك
والحياة والنجاة والهناء والرجاء
في هواك في هواك
أما نشيد نحن الشباب فقد انتشر في (الأربعينات) بين الشباب المتعلّم، ولا سيّما طلاّب الجامعات وأوساط المثقفين ومنتسبي بعض الأحزاب، حيث كانوا يخرجون في تظاهراتهم يردّدون نشيد “نحن الشباب” وخصوصاً في لبنان:
نحن الشباب لنا الغد
ومجده المخلّدُ
نحن الشباب
شعارنا على الزمنْ
عاش الوطنْ
بعنا له يوم المحنْ
أرواحنا بلا ثمنْ
ولد الأخوان فليفل في بيروت (حي الأشرفية)، إذ ولد محمد في العام 1899 أما أحمد فقد ولد في العام 1903 . وقد استلهم الأخوان فليفل الموسيقى وروح النغم الشرقي الأصيل من والدهما . أما التواشيح الدينية فقد أخذاها عن والدتهما التي كان لها صوت جميل وتجيد الابتهالات الدينية والمدائح النبوية، وذلك عن جدّهما (والد والدتهما) الشيخ ديب وهو مؤذن الجامع العمري الكبير في بيروت .
وفي فتوتهما تعلّق الأخوان فليفل بالفرق الموسيقية العسكرية التي كانت تجوب شوارع بيروت، حيث كانا يرافقان والدهما إلى الحدائق العامة ليتمتعا بما تعزفه من ألحان، وبعدها درسا الموسيقى وتعلّما العزف على الآلات . وقد التحق محمد بدار المعلمين التركية (لدراسة الموسيقى)، أما أحمد فقد التحق بفرقة دير المخلص لدراسة البيانو وآلات النفخ، وكان من أهم أساتذتهما مارون غصن وبشارة فرزين والإيطالي فردريك رثلي، كما تعلّما الهارموني على يد الاستاذ وديع صبرا .
عندما استدعي محمد فليفل إلى الجندية 1915 وألحق بمدرسة الضباط الاحتياط في اسطنبول، اغتنم الفرصة ليتابع دروس الموسيقى في دار الفنون، في حين أكمل أحمد الدراسة في بيروت . وبعد انكشاف نتائج اتفاقية سايكس - بيكو، ارتفعت وتيرة الرفض الشعبي في أكثر من بلد عربي، فوجد الأخوان فليفل نفسيهما في لجّة الغضب الوطني، فقاما بإنتاج المزيد من الأناشيد الوطنية، ولحّنا للعديد من الشعراء العرب، مثل الأخطل الصغير وإبراهيم طوقان وسعيد عقل وعمر أبو ريشة ومعروف الرصافي .
وفي فترة لاحقة لحّنا لجورج غريب ونسيم نصر ومحمد يوسف حمّود وسلام فاخوري وشفيق جدايل ووديع عقل، كما يذكر محمد كريّم في صحيفة النهار اللبنانية . وفي العام 1923 أسّسا فرقة الأفراح الوطنية (في حديقة آل فليفل) وتم شراء آلاتها من جيوبهما الخاصة .
وفي العام 1940 انطلق من كلية المقاصد نشيد “العُلى للعرب”، الأمر الذي أزعج المفوض السامي الفرنسي، حيث استشاط غضباً بعد ترجمة كلماته وتم تهديد الأخوين فليفل بالسجن وطلب طرد الشاعر المصري عبدالحميد زيدان . وقد أسس الأخوان فليفل في العام 1942 فرقة موسيقى الدرك ودرّبا أفرادها على المارشات العسكرية في عهد حكومة الرئيس سامي الصلح .
بعدها انتشرت أناشيد فليفل وانتقلت بين البلدان العربية، وفي العام 1944 طلب رئيس الوزراء رياض الصلح وقبيل عيد الاستقلال نشيداً لافتتاح العرض العسكري، وقد تم اختيار كلماته من الشاعر نسيم نصر وما يزال هذا النشيد حتى اليوم:
عيدُ البلاد وفجرُ العلم
بِكْرُ الجهادِ وبَعْثُ الهِممْ
تشرينُنا وحيُ الزمان
سيفُ الإبا مُرْهَفٌ للمدى
تشريننا غضبةُ الباتر
وصيحةُ الحق بالغادر
في حَوْمَةِ الموطن الثائر
مُرَوعاً جَحْفَلَ العِدى . .
لحّن الأخوان فليفل العديد من الأناشيد الوطنية للعديد من البلدان العربية، ومنها نشيد “للنسور”، من كلمات الشاعر سعيد عقل، الذي اختارته وزارة المعارف العراقية في الثلاثينيات، وكان ذلك بتكليف من قسطنطين زريق المفكر العروبي ورئيس جمعية العروة الوثقى .
للنسورْ . . . ولنا الملعبُ والجناحان الخضيبان بنورْ . . . العُلا والعَرَبُ
ولنا القولُ الأبي والسماحُ اليعرُبي . . ./ والسلاحْ
ولنا هز الرماحْ/ في الغضوب المشمسِ
ولنا هز الدنى/ قُبباً زُرقَ السّنا
ولنا صَهْلَةُ الخيلِ/ من الهندِ إلى الأندَلُسِ
وكان نشيد “حماة الديار” عنواناً للجلاء والاستقلال لسوريا، حيث عُزف لأول مرّة كنشيد وطني رسمي صبيحة السابع من إبريل/نيسان العام 1946 وهو من كلمات الشاعر خليل مردم . أما نشيد جامعة الدول العربية بعد تأسيسها في 22 آذار (مارس) 1945 فهو من ألحان الأخوين فليفل وشعر محمد المجذوب .
أشرق الفجرُ فسيروا في الضياء
ودعا الحقُ فهبّوا للنداء
إنه وحيُ السماء
إنه صوت الإباء
بوركَ النورُ سرى في الغَيْهَبِ
مُعْلِناً مطلع شمسِ العربِ
فاسكبوا البشرى بسمع الحِقَبِ
إن انتاج فيلم عن الأخوين فليفل وعرضه تلفزيونياً هو استعادة للزمن الجميل وللكفاح النبيل الذي خاضته الشعوب العربية ضد الاستعمار ومن أجل التحرر والتقدم والتنمية، ومثل هذه الاستعادة مفيدة حين تتهاوى أنظمة وتنهار شرعيات، وتدخل المنطقة كلها في مخاضات وتحدّيات ومرحلة انتقال قد تقصر وقد تطول، بما فيها احتمالات تعرّض كياناتها للتصدّع . . فما أحوجنا اليوم إلى نشيد موطني، إلى الوحدة الوطنية والانتقال السلمي وتحقيق ما عجزت مرحلة الاستقلال عن تحقيقه، وهو التنمية والحرية والديمقراطية والعدالة، وتلكم هي مطالب الشعوب العربية التي رافقت التغييرات التي ظلّت تنتظرها طويلاً ودفعت أثماناً باهظة من أجلها .
صحيفة الخليج الاماراتية ، الاربعاء 17/7/2013