مكبّ النفايات الأمريكية
تركت قوات الاحتلال الأمريكي بعد انسحابها من العراق (أواخر العام 2011) كمّيات ضخمة من النفايات السامة والمواد الخطرة التي خلّفتها في قواعدها العسكرية التي زادت على 500 قاعدة، وقبل انسحابها قامت بدفن الكثير منها في العراق بدلاً من إعادتها إلى الولايات المتحدة، حسبما تقتضي القوانين والاتفاقيات الدولية، لاسيّما اتفاقية بازل الدولية (سويسرا) لعام 1989 الخاصة بالتحكم في نقل النفايات الخطرة عبر الحدود والتخلّص منها، إضافة إلى قوانين وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” ذاتها . وحسب صحيفة ال”تايمز” فإن المواد السامة تشمل نحو 130 ألف طن من النفايات، علماً أنه تم التخلّص من 14 ألفاً و500 طن من الزيت النفطي والتراب الملوّث معه الذي تراكم خلال سنوات الاحتلال .
وقد أصيب الكثير من العراقيين الذين اقتربوا من هذه المواد بطفح جلدي وتقرّحات على الأيدي والأرجل واشتكوا من التعرّض إلى القيء والسعال، وشمل الأمر حتى الحيوانات، حيث تم الكشف عن الكثير من الفئران النافقة في المناطق التي تم دفن النفايات فيها . وكانت بعض الشركات الخاصة المتعاقدة مع القوات الأمريكية قد تكفّلت بالمهمة وقامت بخلط المواد السامة مع النفايات العادية، وسلمتها إلى عمّال محليين بتعاقدات داخل العراق على أنها مواد غير سامة .
أصبح ملف النفايات السامة موضوع تساؤل منذ الانسحاب الأمريكي من العراق، خصوصاً أن المواطنين العراقيين اكتشفوا بعض المواقع لمقابر النفايات السامة موجودة بالقرب من الطرق الرئيسة (بغداد - الموصل) و(بغداد - الأنبار)، لأن أغلبية القواعد العسكرية تمركزت في هذه المناطق، حيث يوجد الكثير من الحاويات والسوائل غير المعروفة وأسطوانات الغاز المضغوط . وغيرها من المواد الشحمية والزيتية، فضلاً عن استخدامات اليورانيوم المنضّب والفوسفور الأبيض في الحرب على العراق العام 1991 والعام ،2003 حيث حدّد برنامج الأمم المتحدة للبيئة 311 موقعاً ملوّثاً يحتاج تطهيرها إلى عدّة عقود . وقد كشفت نرمين عثمان وزيرة البيئة العراقية (في 30/6/2010)، أن الجيش الأمريكي طمر في 30 موقعاً كميّات ضخمة من النفايات والمخلفات السامة .
وكانت قضية النفايات قد واجهت العراق بشكل حاد بعد الاحتلال، إثر انتهاء مفعول الاتفاقية العراقية - الأمريكية (نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2011)، حيث خلّفت القوات الأمريكية وراءها مواد سامّة ونفايات ضارة، وهي مخلّفات نحو 170 ألف جندي أمريكي، فقد تم تفكيك القواعد العسكرية على عجل وبطرق غير نظامية أحياناً، وتركت الكثير من المواد في المواقع التي غادرتها القوات الأمريكية أو بالقرب منها .
وقد اعترف الجنرال كينرال كوكس قبل عام من مغادرة القوات الأمريكية العراق (2010) قائلاً: لقد تراكمت (خلال وجودنا) ملايين من أرطال النفايات الخطرة، لكنه حاول التملّص من مسؤوليته حسب الدستور الأمريكي ومسؤولية رئيسه الحالي (أوباما) والرئيس الذي قرر الحرب على العراق (بوش)، وكان ذلك قبل الانسحاب الأمريكي من العراق . أما بعد الانسحاب فقد كانت النفايات أكثر خطراً وسموماً، لاسيّما مواد التشحيم والأحماض والبطاريات والمواد الكيماوية وغيرها من بقايا النفايات، والخردة . ولكن بحكم ضغط الرأي العام وارتفاع أصوات بعض المنظمات الإنسانية اضطرّ الجيش الأمريكي إلى فتح تحقيقات وملاحقة بعض المتورطين، ولاسيّما من المقاولين والمتعاقدين، لانتهاك المعايير الخاصة بالبيئة والصحة، فضلاً عن حقوق الإنسان .
إن استخدام الأراضي العراقية سلّة للمهملات بطريقة غير مشروعة، أو ترك مواد بعض المنشآت الخطرة على أرضه دون مراعاة قواعد السلامة والصحة، ألحق أفدح الأضرار بموارد العراق وبيئته وتلويث أرضه، ولعلّ ذلك وحده جريمة ضد الإنسانية، بعد جريمة الاحتلال وانتهاك حقوق الشعب العراقي ككل، وهي من صنف الجرائم الدولية التي ينبغي إلزام الولايات المتحدة والشركات والأفراد المتعاقدين معها، بالمسؤولية القانونية الدولية، ومطالبة جميع هذه الجهات بدفع تعويضات لكل ما أصاب العراق من خسائر مادية ومعنوية بسبب تلك الممارسات غير الإنسانية والمنافية للاعتبارات القانونية والأخلاقية .
ولو لم توقّع بغداد على الاتفاقية العراقية - الأمريكية في أواخر العام 2008 لكان بإمكان العراق مطالبة واشنطن كدولة بالتعويض عن كل ما أصاب الشعب العراقي من غبن وأضرار بموجب القرار 1483 الصادر في 22 مايو/ أيار 2003 الذي شرعن للاحتلال، وبموجبه أصبحت القوات الأمريكية والبريطانية قوات محتلة ينطبق عليها اتفاقيات جنيف للعام 1949 وملحقيها للعام ،1977 أي البروتوكول الأول الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة والثاني الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية، طبقاً لقواعد القانون الدولي الإنساني .
ولعلّ الأمر يحتاج حالياً إلى جهد جماعي ودبلوماسي دولي، حكومي وغير حكومي، لمطالبة واشنطن بالتعويض ليس عن تبعات احتلالها فحسب، ولا سيما المستمرة، بل بسبب ما خلّفه انسحابها أيضاً من أضرار، وخاصة تلك التي تتعلق بترك مخلّفات ودفن نفايات ومواد سامة كانت استخدمتها في القواعد العسكرية الأمريكية، ولا تزال وستبقى تأثيراتها لعشرات السنين .
إن قضية دفن النفايات والمواد السامة لم تعد قضية داخلية بحتة في ظل العولمة وثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا المعلومات والإعلام، وهو أمر يقتضي تحويله إلى قضية دولية، لا سيّما المطالبة بتطبيق اتفاقية بازل التي تقضي بإعادة المواد السامّة والمشعّة إلى أراضي الدولة التي استخدمتها .
وبهذه المناسبة نشير إلى أنه لدى مراجعتنا لاتفاقية بازل والدول الموقعة والمصدّقة عليها، اكتشفنا أن الولايات المتحدة لم تصادق عليها، علماً بأن القوانين الأمريكية ذاتها تقضي بعدم نقل هذه المواد السامة إلى بلد آخر، ولا سيّما من البلدان النامية أو ما يسمّى بالعالم الثالث، أو ما يطلق عليه “دول الجنوب” أو “الدول الفقيرة” أو “الريف العالمي”، فالعالم كلّه غدا متداخلاً ومتفاعلاً ويؤثر بعضه في بعضه الآخر سلباً أو إيجاباً، وكلّما ازداد العالم انقساماً تعاظمت مشكلاته، خصوصاً في ظل التفاوت الطبقي والاجتماعي والاختلال في توزيع الثروة ومحاولات فرض الهيمنة ونهب خيرات الشعوب، فضلاً عن المستوى الثقافي والتعليمي والاستفادة من منجزات العلم والتكنولوجيا .
صحيفة الخليج الاماراتية ، الاربعاء 10/7/2013