مشاهداتي في (الأربعين)
(1)
شرطان لفهم السر المكنون
امام الزحف المليوني الهادر الى مرقد سيد الشهداء الامام الحسين بن علي عليهم السلام في كربلاء المقدسة، ليسأل العالم نفسه عن النبأ العظيم والسر الخفي والسبب الحقيقي والجوهر المكنون وراء كل هذا المظهر العالمي النادر، إنْ بالعدد او بالتنظيم او بمجانية الأطعام والسكن والصحة والخدمات الممتدة على طول طريق الزائرين، والممتد اكثر من (٥٠٠) كم في الاتجاهات الأربعة التي تنتهي الى المرقد الشريف.
لا شك ان هذه الملايين لا تزحف الى مرقد الشهيد سيرا على الأقدام، وعلى مدى عشرين يوما متواصلة، الا لشيء عظيم ونية نبيلة، والذي يتجلى في تلبية النداء لصرخة الامام وأخلاقه، وفي القيم والأهداف الانسانية الكبرى التي ضحى من اجلها الشهيد ابن الشهيد عليه السلام.
انهم يولون وجوههم، في مسيرتهم المليونية، شطر الحرية والكرامة الانسانية والعدل وقيم الدين والحضارة، وشطر الوفاء والشجاعة والموقف النبيل والإيمان الصادق، وكل ما يمثله سيد الشهداء عليه السلام وأهل بيته وأصحابه الذين ضحوا بكل شيء من اجل الانسان الذي خلقه الله تعالى فأحسن خلقه وكرمه، فقال تعالى {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} وقال تعالى {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}.
انهم يولون وجوههم، رجالا ونساءا، كبارا وصغارا، شطر كعبة الأحرار والمجاهدين الصادقين، مرقد سبط رسول الله (ص) في كربلاء المقدسة.
سيعرف العالم السر المكنون في هذه الظاهرة المليونية السنوية التي تنطلق في كل عام في ذكرى أربعين سيد الشهداء بالرغم من المخاطر والتحديات الكبيرة، اذا حاول ان يجيب على التساؤل بشرطين:
الاول: بعقل انساني منفتح يقبل بالحق بغض النظر عن مصدره، فأصحاب العقول الضيقة من الطائفيين والتكفيريين والحاقدين، لا يمكنهم استيعاب وفهم الظاهرة ابدا، فصدورهم أضيق من ان تستوعب الحق.
الثاني: بروح إيجابية بعيدة عن التعصب الأعمى والحقد الدفين والنفوس المريضة.
ان الحسين (ع) رسالة إنسانية، وكربلاء عنوان عالمي، وعاشوراء عَبرة تغلي بحرارة في قلب كل منصف، لن تنطفئ ابدا.
وان مسيرة الأربعين المليونية تجسيد لكل هذا، فهل من منصف يعي ويستوعب هذه الحقائق الخالدة والمتجددة مع الزمن؟.
(2)
مشاعر استثنائية
هي مشاعر لا توصف، والزمان، كما المكان، لا يستوعبها، لانها روحية ومعنوية، تمتزج بالعقل والفكر، لتنتج وعيا رساليا علويا حسينيا فريدا.
فالمشاركة في الزحف المليوني الهادر في (أربعين) سيد شباب اهل الجنة الامام الحسين بن علي عليهم السلام، له طعم الإيمان والوفاء والكرامة والحرية، وفوق كل ذلك، طعم الانسانية التي ضحى من اجلها الشهيد ابن الشهيد، والقتيل ابن القتيل (ع).
تذكرت، وانا أسير بين الجموع الزاحفة في طريق النجف - كربلاء، ذلك اليوم من عام ١٩٧٧ عندما تحدى انصار الحسين (ع) قرار الطاغية الذليل صدام حسين القاضي بمنع مسيرة الأربعين، لينطلقوا بمسيرة التحدي والإباء، والتي كانت نتيجتها عدد من الشهداء الأبرار تساموا الى جنان الخلد، اما في الطريق عندما تصدى الطاغية للمسيرة بالطائرات والدبابات، او اثر مسرحية المحكمة الصورية التي شكلها الطاغية، والتي أصدرت احكام الإعدام بحق عدد من انصار الحسين (ع) بالاضافة الى احكام بالسجن بحق عدد آخر تراوحت بين المؤبد وبعض من السنين، كان من بين الذين حكم عليهم بالمؤبد الشهيد آية الله السيد محمد باقر الحكيم، الذي كان قد حضر انطلاق مسيرة التحدي عند بوابة النجف الاشرف مبعوثاً من قبل الشهيد آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر.
هنا تذكرت الشهيد عباس ابو بسامير، أخي وصديقي وزميلي في الجامعة، والذي سرت بصحبته مسافة من الطريق، كان يحمل راية المسيرة عالية خفاقة وقد كتب عليها الاية المباركة (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) عندما أبى الا ان يوصلها الى حيث مهوى قلوب العاشقين مرقد سيد الشهداء، ليحكم عليه الطاغية، فيما بعد، بالإعدام، وما درى انه حكم على نفسه بالإعدام، فأين الطاغية الذليل ليرى هذه الجموع المليونية الزاحفة التي حاول صدها ومنعها من الوصول سيرا على الأقدام الى معشوقها الذي امتد طريقا واضحا وصراطا مستقيما الى العلي الاعلى، واقصد به سيد الشهداء (ع)؟.
ومن المشاهدات:
اولا: التفاني في الخدمة، فكل من نصب سرادقا للعزاء، سعى بكل اخلاص لخدمة المسيرة المليونية بلا منّة او أذى يبطل عمل الخير.
لم تلمس في خدمتهم رياءا او اي نوع من انواع حب الظهور مثلا، فخدمتهم تقطر إخلاصا قل نظيره، طبعا باستثناء السرادقات الحزبية، خاصة التابعة الى الحزب الحاكم، فالرياء لفها من قمة رأسها الى أخمص قدميها، وهي تجارة سياسية وحزبية رخيصة وبائرة سلفا.
ثانيا: مظاهر الإيمان والتقوى بادية على المسيرة المليونية بشكل واضح، ان بالملبس او بطريقة المشي الهادئ والوقار النادر، خاصة عند النساء، كبارا وصغارا، اما الشباب فبحاجة الى تذكرة وتنبيه متكرر ليتحلى بمظاهر الوقار والتقوى اكثر فاكثر، على الرغم من ان المرجعية الدينية العليا قد ذكّرت الجميع بما ينبغي الاهتمام به من أخلاق والتزامات وهم في مسيرهم الى الحسين (ع).
ثالثا: الطعام ممتد على طول الطريق بنظام (البوفيه) المفتوحة في اكبر وأطول مائدة في العالم وفي التاريخ، ان على صعيد غذاء الجسد او غذاء الروح، اما غذاء العقل فكان نادرا، فلم تجد بين سرادقات العزاء والإطعام خيام العلماء والفقهاء وطلبة العلوم الدينية لتقديم الإرشادات الدينية والأجوبة على أسئلة السائلين او تقديم الحديث والخطاب للمشاة، الا ما ندر، كما غاب الكتاب، كذلك، الا ما ندر.
رابعا: ومن اروع المظاهر الحضارية، النظافة، وذلك لعدة أسباب لعل من أهمها هي حملات التوعية التي أطلقتها عدد من منظمات المجتمع المدني، وكذلك الوعي الشعبي العام بأهمية النظافة والذي دفع المشاة الى التعاون والمساهمة في خلق هذه الظاهرة الحضارية، فضلا عن الحضور المباشر للآليات التي بذلت جهدا كبيرا لإخلاء مدينة كربلاء المقدسة وكذلك الشوارع والطرقات الممتدة من والى مختلف المحافظات، اخلاءها من الأوساخ والقمامة بكل أشكالها، طبعا من دون ان يعني ذلك ان النظافة كانت على أتم أشكالها، الا ان الفارق كان واضحا عن السنين السابقة، وهذا ما سجلته شهادات الزائرين والمشاة.
(3)
قضية التركمان
هذا الزحف المليوني الهادر الذي ولّى وجهه شطر الحسين بن علي عليهما السلام في ذكرى الأربعين، جسد الكثير من القيم الإنسانية العظيمة التي حملتها عاشوراء، ولعل من أهمها وأبرزها:
اولا: الانتصار للمظلوم، ولقد قال امير المؤمنين عليه السلام في وصيته للحسنين عليهما السلام {كونا للظالم خصما وللمظلوم عونا} من دون تحديد هوية الظالم والمظلوم، فقيمة الإعانة والخصومة ذاتية لا تنبع من الهوية ابدا.
على طول الطرق المؤدية الى مرقد سيد الشهداء (ع) والممتدة اكثر من (٥٠٠ كم) في الاتجاهات الأربعة، ترى انصار الحسين (ع) حملوا صور ولافتات وأسماء شهداء الحق والعدل والحرية في اكثر من بلد، خاصة البحرين والجزيرة العربية ولبنان ومصر، وفي كل بلد فيه شهيد او ثائر او مظلوم، حتى ان عدد من سرادقات العزاء تسمت باسم شهيد العقيدة الانسانية الرسالية الشهيد الشيخ حسن شحادة، الذي قتله الأمويون الجدد من التكفيريين المتمردين في مصر الفاطمية، فرفعوا اسمه وصورته في كل زاوية من زوايا الموكب.
ابرز قضايا المظلومين التي حضرت في كل خطوة من خطوات الزحف المليوني، هي قضية التركمان الذين يتعرضون منذ مدة لحرب الإبادة الجماعية في طوز خورماتو، فلقد تبنت الكثير من مواكب العزاء قضيتهم العادلة ليثيروا انتباه الناس اليها، وهي التي كادت ان تتحول الى قضية منسية او هامشية على الرغم من خطورتها وعظم الدماء التي لازالت تسيل انهارا، والتي امتدت من الطوز الى كربلاء، عندما فجر الإرهابيون مواكب التركمان في اكثر من منطقة على طول الطريق.
ولقد أقامت مجموعة من التركمان الأبطال الذين تبنوا القضية، اعتصاما مفتوحا بين الحرمين الشريفين في كربلاء المقدسة، والى جانبه معرض للصور عرض المأساة بشكل ملفت للنظر، كما امتلأت شوارع المدينة والطرق العامة باللافتات التي امتدت على جانبي الطريق تتحدث عن المأساة، داعية انصار الحسين (ع) الى نصرة التركمان في طوز خورماتو.
اما مواكب عزاء التركمان، التي جابت شوارع كربلاء المقدسة في الأربعين، فلقد كانت ملفتة للنظر، إن بالحضور او بالشعارات او باللافتات او باهتمام الناس بها بالتحية والالتفاف حولها.
ان قضية التركمان قضية إنسانية ووطنية وسياسية بالاضافة الى انها قضية ذات بعد اثني ومذهبي ومناطقي، ولذلك فهي قضية معقدة ينبغي على مؤسسات الدولة العراقية، وتحديدا مجلس النواب والحكومة العراقية، إعطاءها اهتمام اكبر بكثير من مجرد بيانات الإدانة والرفض والاستنكار لعمليات القتل الجماعية التي يتعرضون لها.
ينبغي إصدار التشريعات اللازمة الكفيلة بحماية التركمان، وإذا كانت الحكومة عاجزة عن حمايتهم، فلابد من سلوك احد طريقين:
فاما تشريع قانون الدفاع عن النفس، الدفاع الذاتي، وفتح باب التطوع الشعبي لكل من يريد المشاركة في حماية الدم التركماني، او طلب الحماية الدولية، كما فعل الكرد في بدايات التسعينيات من القرن الماضي عندما تعرضوا للإبادة الجماعية، ولم يتمكنوا من الدفاع عن انفسهم بأنفسهم.
ان التركمان بشر، ومن حقهم حماية انفسهم من الإبادة الجماعية بأية وسيلة قانونية ممكنة، وطنية ذاتية او دولية، لا فرق، وان استمرار نزيف الدم التركماني بهذه الطريقة ينذر بعواقب وخيمة، فأين نواب التركمان في البرلمان والحكومة؟ اين أحزابهم السياسية؟ ام {رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}؟.
ان القضية بحاجة الى جهد وطني شامل، تشترك فيه حتى المرجعية الدينية ومنظمات المجتمع الوطني.
(4)
الدم...حرم الله
كما ان الله تعالى شاءت إرادته ان يكون ثمن حفظ دينه، دم سبط رسوله الكريم (ص) الامام الحسين بن علي عليهم السلام، كذلك فان إرادته، جل شأنه، شاءت ان يكون ثمن الحفاظ على الشعائر الحسينية دم يراق على جانبي الطريق، بما تمثل من قيم إنسانية عظيمة تهدي الانسان الى الصراط المستقيم، من خلال التمثل بمجموع المناقبيات العظيمة التي جسدها الامام الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه في عاشوراء في كربلاء.
ولقد تمثل الزحف المليوني في ذكرى الأربعين، بعدد كبير من تلك المناقبيات الحسينية الخالدة، عندما تحولت المناسبة الممتدة على مدى اسبوعين تقريبا، وعلى طول الطريق العام المؤدي الى مرقد السبط الشهيد، كعبة الأحرار ومنار الثوار، تحولت الى صف تعليمي مكثف ومركز لصقل الروح والجسد.
ومن تلك المناقبيات: الكرم، العلاقات العامة، التعامل بإنسانية، الإخلاص، الإبداع، الخدمة العامة، الرياضة الجسدية والروحية، التقرب اكثر فاكثر الى الله تعالى والى رسوله الكريم (ص) وأهل بيته عليهم السلام.
وان هذه الخصال حضارية إنسانية فضلا عن انها دينية، وإذا كان المرء بحاجة الى أعوام ليتعلمها، فان مشاركة واحدة في ذكرى الأربعين تكفي ليتعلم فيها كل هذه الخصال وأكثر.
ولقد اثبت شيعة اهل البيت (ع) انهم يحبون الحسين (ع) اكثر من حب الوهابيين التكفيريين لله تعالى، على الرغم من انهم يدعون خدمة بيته العتيق في مكة المكرمة، وشعارهم، كذبا وزورا (خدمة الحاج شرف لنا).
انهم يستغلون معاناة الحجاج في ايام اعمال الحج كل عام لابتزازهم في كل شيء، في النقل والسكن والطعام وفي كل شيء، اما انصار الحسين (ع) فلم تجد فيهم احد يفكر في استغلال الزائرين لابتزازهم ابدا، فتراهم يتوسلون خدمة الزائر بلا منة.
كذلك، فعلى الرغم من المخاطر العظيمة التي تحدق بالزوار في طريقهم الى الحسين (ع) الا انهم صمموا على السير قدما والوصول الى المرقد المقدس للإمام الشهيد، من دون ان يرهبهم القتلة او يثنيهم الإرهابيون، وإذا سمعوا بجريمة ارتكبها الإرهابيون ضد موكب او سرادق عزاء فانهم يكبرون ويهللون ثم يواصلون طريقهم بكل ثبات واطمئنان، وهو مصداق للمشيئة الإلهية التي أبت الا ان يضمخ طريق الحسين (ع) بالدم، ولكن:
هل يعني ذلك أننا نستهين بدمائنا؟ ابدا، فالدم حرم الله تعالى لا يجوز الاستهانة به ابدا، وهو ثمين جدا ومقدس، ولذلك فان علينا ان نبذل كل ما نملك من جهد من اجل صيانة الدم وحمايته من الارهابيين، وذلك على ثلاثة مستويات:
الاول؛ هو المستوى الشخصي، اذ ينبغي على كل عراقي، خاصة في المناسبات العامة التي يشترك فيها الملايين، ان يتحلى بحس أمني عالي، يشم الخطر من بعيد ويكون على حذر شديد، ولقد كان امير المؤمنين (ع) حذرا في المعارك حتى ان وحشي رفض طلب هند آكلة الأكباد قتله في معركة بدر قائلا لها بان حذره الشديد يحول بينه وبين اصطياده في ساحة الحرب.
ولشدة تآمر الطاغية معاوية بن ابي سفيان ابن هند آكلة الاكباد، على الامام السبط الحسن المجتبى عليه السلام، ومعرفة الاخير انه ينوي اغتياله، لبس الامام درعا وسترها وكان يحترز ولا يتقدم للصلاة الا كذلك.
ان الحذر شجاعة، وان الحس الأمني مبادرة، ولذلك قيل (الحذر يقيك الضرر).
ان استهانة البعض بالخطط الأمنية، مثلا، او تجاهل التعليمات بحجة الجنون بحب الحسين (ع) امر مرفوض، فائمة اهل البيت (ع) لا يريدون لشيعتهم القتل والذبح على اي حال، بل يريدون لهم حياة سعيدة، في ظل الأمن والعزة والكرامة، ولقد كان الحسين (ع) حريص على دم أعدائه، فظل يعضهم ليثنيهم عن قتاله، فما بالك بأهل بيته وأصحابه؟.
الثاني؛ على صعيد المنظومة الأمنية، من خلال تحديث الخطط الأمنية وتطهير المؤسسات المعنية من العناصر المشبوهة، واستبدال القيادات الفاشلة باخرى ميدانية ومهنية ناجحة.
وبهذه المناسبة، فانا احيي قواتنا المسلحة الباسلة التي استجابت لنداء الوطن ولصرخة المواطن الذي عانى الأمرين على يد جماعات العنف والإرهاب، خاصة في مناطق الحواظن التي عشعش وبيض وفقس فيها الارهاب، متمنيا لها النجاح وتحقيق النصر الكامل، وإنجاز مهامها على أحسن ما يرام، بعيدا عن التوظيف الحزبي والدعاية الانتخابية الرخيصة التي تحاول، وبنذالة، توظيف الدم في المعركة الانتخابية.
الثالث؛ على المستوى السياسي والدبلوماسي والحقوقي، من خلال إطلاق حملة دولية لفضح مصادر الارهاب وتجريم كل من يدعمه، خاصة نظام القبيلة الفاسد الحاكم في الجزيرة العربية، وما يرتبط به من فقهاء تكفير ومؤسسات تتستر بالعمل الإنساني والدعوي والشبابي، وكذلك من اعلام تحريضي وأقلام مأجورة.
لابد من إطلاق مثل هذه الحملة الحقوقية العالمية، وإلا فان الارهاب استرخص دماءنا لدرجة وكأننا راضون بالذبح او خائفون من الرد او خانعون امام تهديدات جلادنا.
يجب ان لا نظهر للرأي العام العالمي وكأننا مشاريع مصالخ لجماعات العنف والإرهاب، او كأننا قطيع خراف تنتظر سكين الارهابيين لفصل رؤوسها عن أجسادها، فقطرة دم واحدة ثقيلة في ميزان الله تعالى، فلماذا نسترخصها، إذن، بالغفلة مثلا او اللاأبالية؟.
(5)
قصة مسيرة التحدي في ٢٨ صفر ١٩٧٨
هذا الزحف المليوني الى مرقد سيد الشهداء الامام الحسين بن علي عليهم السلام، بمناسبة (الأربعين) يتعلم من عاشوراء، فيما يتعلم، التحدي، ففي ظروف المواجهة، إنْ مع الطاغوت او مع الفساد او مع الارهاب، لا يمكن تحقيق الفوز والنصر وتجاوز المحنة الا بالتحدي الذي يعتمد الإرادة الفولاذية التي يصنعها في النفوس حب الحسين (ع) والتخلق بأخلاقه النبيلة وقيمه الرسالية الانسانية العظيمة، والتشرب بروحه الوثابة والسامية.
في طريقي اليوم من كربلاء المقدسة الى النجف الاشرف، حيث مرقد ومثوى اخو رسول الله (ص) الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهم السلام، ترى مسيرة مليونية اخرى تمشي سيرا على الأقدام لتقديم التعازي بمناسبة ذكرى وفاة رسول الله (ص) ورحمة الله للعاملين، في (٢٨) صفر المظفر من كل عام.
المسيرة ذكرتني بمسيرة اخرى انطلقت في نفس اليوم ولكن قبل (٣٥) عاما وتحديدا في (٢٨) صفر من العام ١٩٧٨.
الذكرى فرضت عليّ ان اكتب عنها شيئا ليعرف الجيل الجديد، بل الأجيال الجديدة، شيئين مهمين:
الاول: هو ان هذه الظاهرة المليونية السنوية لم تأت او تصل اليه بالمجان، فلقد قدمت الأجيال السابقة دماءا ودموعا وآهات ومعاناة لتحفظ للأجيال دينها وعاداتها وتقاليدها الحقيقية والصحيحة التي تندرج في إطار مفهوم الاية المباركة {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}.
الثاني: هو ان الأجيال التي سبقتها لم تركع للطاغوت ولم تستسلم لسياساته المنحرفة التي تمثلت، فيما تمثلت، بحربه الشعواء ضد الحسين (ع) ليقتلع جذوره من عقولنا وأرواحنا وفكرنا وثقافتنا، فلقد تحدت الأجيال السابقة وضحت بكل غال ونفيس من اجل الحفاظ على دين الناس وشعائرهم، وعلى رأسها الشعائر الحسينية.
فما هي قصة مسيرة التحدي في (٢٨) صفر عام ١٩٧٨؟.
كان العراق في تلك الفترة الزمنية يغلي، فللتو صدرت الأحكام الجائرة بحق ثلة من انصار الحسين (ع) إثر انتفاضة صفر الباسلة عام ١٩٧٧، والتي تراوحت بين الإعدام شنقا حتى الموت والسجن المؤبد والسجن لمدد طويلة، فيما كان وقتها الطاغية الذليل صدام حسين يخطط لاقصاء البكر عن سدة الحكم ليحل محله طاغوتا مستفردا بالسلطة بلا منازع، فيما كانت الجارة ايران تشهد واحدة من اعظم الثورات الشعبية في المنطقة والعالم بقيادة علماء الدين، أخذت بألباب الناس وعقولهم وشغلت بالهم وتفكيرهم.
كان الشباب الحسيني المؤمن يعيش اجواء التحدي في قمتها، خاصة في مدينة الحسين (ع) مدينة التحدي والجهاد والشهادة والتمرد على الظلم، مدينة عاشوراء وما شهدت، فاتفقت ثلة منهم، وكنت أصغرهم سنا، على ان تفعل شيئا يُظهر هذا التحدي للعيان، وبأي ثمن كان، ليردوا به على جريمة الأحكام الجائرة بحق انصار الحسين (ع).
قررت الثلة ان تنظم مسيرة جماهيرية تنطلق من كربلاء المقدسة الى النجف الاشرف في يوم (٢٨) صفر ذكرى وفاة الرسول الأكرم (ص).
وبالفعل، انطلقت المسيرة من منطقة خان النص، هي الان مدينة مترامية الأطراف ومتعددة الأحياء كانت وقتها عبارة عن خان يقيم فيه الزائرون تحيطه عدد قليل من البيوت والمحال التجارية الصغيرة، يتوسط المسافة بين المدينتين، انطلقت المسيرة بعد ان تم تنظيم كل الامور وإعداد الرايات واللافت ومكبرات الصوت، وقد أعدت الثلة عدد من القصائد الحسينية الحماسية التي تحمل نكهة السياسة والتحدي، لتُقرأ في المسيرة على الملأ، من بينها القصيدة الرائعة التي كان قد كتبها المحقق والخطيب البارع والمفوه الحجة السيد غياث طعمة، وهي؛
انما ايامنا حزن وعيد
ورجال هم حسين او يزيد
نحن قوم قد سعينا للجهاد
وتوكلنا على رب العباد
همنا ان يحكم الدين البلاد
ليزول الظلم والعدل يسود
وتهيأنا لحبل ورصاص
وصرخنا مالكم منا مناص
ولكم في هذه الدنيا قصاص
اننا نبغي الجزا يوم الوعيد
كلما زدتم ضلالا وعمى
تلد الاهات جيلا مسلما
كل من يُقتَل يغدو علما
نوره يقضم قضبان الحديد
أظننتم انّنا دون هدى
أو سنجفو ديننا عند الردى
ليرى الرحمن وجها اسودا
يوم تدعو ناره هل من مزيد
يزأر المؤمن عالي الشيم
أنا لن أصبح عبد الصنم
فاشربوا في الله نفسي ودمي
غير أني عن طريقي لن أحيد
كل آهٍ في سجون الظالمين
سيدوّي صوتها حتى الجنين
وستمحو عن بلادي الكافرين
ليحل الدين والعهد الجديد
أحسين ثرت في يوم عصيب
خائفا من عودة الدين غريب
ثم أطلقت شعارا لن يغيب
خالدا مادام للدنيا خلود
إن يكن ذا الدين لم يستقمِ
دونما حربيَ أو سفك دمي
فخذيني ياسيوف الظُّلَمِ
ليفكَّ الدين أغلال العبيد
بالاضافة الى عدد آخر من القصائد الحماسية والثورية.
فما الذي حصل بعد ذلك؟.
(6)
مسيرة التحدي عام ١٩٧٨ وتنظيم الانطلاقة
تجمع الشباب الثائر عند منطقة (خان النص) في حوالي ظهيرة يوم ٢٧ صفر عام ١٩٧٨، ليقيموا صلاة الظهر والعصر جماعة، قبل ان ينطلقوا في مسيرة التحدي باتجاه مثوى امير المؤمنين (ع) ومرقده الشريف في النجف الاشرف.
كان الركب يتمثل بركب الحسين (ع) الذي غادر مكة المكرمة باتجاه العراق، في الأهداف والمنطلقات والروح الرسالية والمعنويات العالية والتصميم على التحدي والمثابرة، الا انه كان يختلف عنه في امر واحد فقط، فبينما كان ركب الحسين (ع) قد بدأ في مكة المكرمة بعدد كبير من الناس، ليتناقص عددهم كلما تقدم نحو الهدف بسبب اطلاع الامام لهم على الحقائق كلما وصلته من مقصده، الكوفة، حتى استقر العدد على نيف ومئة في اكثر الروايات التاريخية، بدأ ركبنا بعدد لم يتجاوز عدد شهداء كربلاء لينتهي بمسيرة جماهيرية ضخمة جدا وصل عدد المشاركين فيها الى عشرات الآلاف، اذ كلما كان الركب يقترب من أسوار المدينة كان العدد يتزايد اذ كان انصار رسول الله (ص) وأهل بيته عليهم السلام يلتحقون به غير مبالين بالمخاطر الجمة التي كانت تحدق به في ظروف التحدي العظيمة تلك.
ولقد اجتمع قرار الثلة الحسينية المؤمنة، مبدئيا، على ان تنتهي مسيرة التحدي عند أسوار مدينة النجف الاشرف تحسبا للطوارئ وخشية من حملات الاعتقال التي عادة ما يشنها النظام الشمولي عندما يتحسس الخطر من أية حركة من هذا النوع، خاصة وان القصائد التي صدحت بها مكبرات الصوت كانت ثورية وسياسية هادفة بكل معنى الكلمة، كما انها كانت تمس النظام ورموزه وسياساته في الصميم، فان دخول مسيرة جماهيرية كبيرة الى داخل المدينة المكتضة بالزائرين من مختلف محافظات العراق وكذلك بعدد كبير منهم من مختلف دول العالم، يعد ناقوس خطر لا يتحمله النظام وزبانيته وأزلامه، ولذلك كان القرار الأولي ان تنتهي مسيرة التحدي عند أسوار المدينة ليفترق الجمع ويختفي في الأزقة والطرقات الضيقة بلا خسائر، ان صح التعبير.
عندما أرادت مسيرة التحدي الانطلاق، بحث الجمع الثائر عن من يصدح بصوته الجهوري بمكبرات الصوت، تاليا للقصائد المعدة وبالطريقة الفنية والحماسية المطلوبة، دون خوف او تردد او وجل، لا يترك المايكرفون مهما حصل.
ولحسن الحظ، فلقد وقع اختيار الجميع عليّ، وهو قرار أعده نعمة من الله تعالى ساقها لي في تلك اللحظة التاريخية التي كانت تحتاج الى شجاعة وجرأة غير طبيعية، فلو ان كل الجمع كان بإمكانه ان يفلت من الاعتقال ويتوارى عن الأنظار اذا ما داهمه الخطب، او اذا ما شن أزلام النظام الشمولي حملة اعتقالات، فان صاحب الصوت المرتفع الى السماء من خلال مكبرات الصوت ليس بإمكانه ذلك، كما انه لو قرر الهرب مثلا في ساعة ضعف او انهيار، فذلك يعني فشل مسيرة التحدي كلها، وذلك ما لم يكن في حسبان احد من الثلة ابدا، فالأمر الوحيد الذي كان يدور في خلدهم هو نجاح محاولة التحدي وباي ثمن.
انطلقت المسيرة وقد أمسكت بالمايكرفون مرددا القصائد الحسينية الثورية بكل شجاعة وجرأة وعزيمة وثبات، فلقد كنت، وقتها، شابا متحمساً في المرحلة الجامعية الثانية، احمل من الشجاعة والجرأة ما يكفي لتحمل مثل هذه المسؤولية الثقيلة والتصدي لمثل هذا الموقف، والحمد لله فلقد كنت عند حسن ظن كل من قلدني وسام هذه المسؤولية.
غذنا السير والركب يكبر ويكبر حتى وصلنا الى أسوار مدينة النجف الاشرف، عندها همس في أذني عدد من زملائي في الثلة الثائرة ان قد وصلنا الى المكان المتفق عليه وعليك الان بالتوقف عن قراءة القصائد فورا وترك مكبرات الصوت، وأضافوا؛
لقد تأكد لنا بان المسيرة محاطة بعناصر الأمن وأزلام النظام، فلا بد من إنهاء المسيرة فورا ليجد كل واحد منا طريقا للهرب من أعين النظام لئلا يصطادوا احدا فنقع كلنا في الفخ.
تلفّتُّ يمنة ويسرة وألقيت بنظرة الى الخلف، وإذا بالمسيرة قد كبر حجمها واتسعت رقعتها الجغرافية بشكل لا يوصف.
فكرت قليلا، ثم اتخذت القرار الصعب في تلك اللحظة الصعبة، قررت ان أواصل المسير بنفس الحماس وبنفس القصائد لحين الوصول بجمهورها الى مرقد امير المؤمنين (ع) وليكن ما يكون، ولكن؛ كيف لي ان أخالف رأي الجمع من زملائي؟ وكيف سأتصرف اذا ما حدث شيء للمسيرة وقد اتخذت قرارا فرديا من دون الرجوع الى احد؟ وقديما قيل (للانتصار الف أب، اما الهزيمة فيتيمة).
فكَّرت المرة والأخرى حتى استقر رأيي على ان أواصل المسير حيث المرقد الطاهر لأمير المؤمنين (ع) على ان أتحمل المسؤولية كاملة لوحدي.
وانا أصرخ بالقصائد في مكبرات الصوت، حاولت ان أهمس في اذن احد المؤمنين قائلا:
انتم تفرقوا حسب اتفاقنا الأولي، اما انا فسأستمر وأواصل المسير الى مرقد الامام.
حاول ان يثنيني عن قراري هذا، محذرا من مغبة (التهور) الا انني كنت مصرا على قراري، خاصة وانا ارى المسيرة تكبر كلما تقدمنا خطوة. وكأنها كرة ثلج تكبر اكثر فاكثر كلما تدحرجت من عل.
استمرت مسيرة التحدي حتى وصلت مدخل السوق الكبير الذي يؤدي الى مرقد امير المؤمنين (ع) دخلتْ السوق فتضاعف صوت المكبرات كونه سوق مسقَّف ومقفل، اذا باعداد المشاركين تتضاعف بشكل ملفت للنظر فجن وقتها جنون السلطة وزبانيتها، فيما تضاعفت مسؤوليتي إزاء مسيرة التحدي كذلك، فزاد تصميمي على ان لا اتركها الا في داخل صحن الامام امير المؤمنين (ع).
فماذا حصل بعد ذلك؟.
(7)
مسيرة التحدي تصل حرم أمير المؤمنين (ع)
امتلأ السوق الكبير (المسقف) في النجف الاشرف بأنصار الحسين (ع) الذين التحقوا بمسيرة التحدي، وكانوا من مختلف المحافظات العراقية الذين حضروا الى النجف الاشرف لزيارة امير المؤمنين (ع) في ذكرى وفاة رسول الله (ص) في ٢٨ صفر.
بدوري، واصلت إلقاء القصائد الحماسية التي كان يرددها خلفي الجمع الكبير من الأنصار، فيما بدأتُ الحظ حركة غير طبيعية من قبل أزلام النظام وزبانيته، والذين جنّ جنونهم وهم يرون انفسهم عاجزين عن إيقاف المسيرة والحيلولة دون وصولها الى حرم الامير (ع).
وصلت المسيرة، بحمد الله تعالى، الى داخل الصحن العلوي الشريف، الذي كان مكتضا بالزائرين من النساء والرجال والكبار والصغار، وقد ارخى الليل سدوله.
ولقد كانت فرصة بالنسبة لي ان انهي المسيرة وسط هذا الجمع الكبير من الزائرين ليتسنى لي الإفلات من قبضة النظام، ففي مثل هذا الازدحام يضيع فيه المرء ويفلت عن أعين المراقبة.
وبالفعل، ما ان توسطت الجموع الغفيرة في وسط الصحن العلوي الشريف حتى ختمت المسيرة بالقول (الفاتحة مع الصلوات) لترتفع أصوات الزائرين بالصلاة على محمد وآل محمد، ثم دسست أوراق القصيدة الاخيرة التي كنت اقرأها في جيب الثوب (الدشداشة السوداء) التي كنت ارتديها وقتها.
ولكن..............
هنا كانت المفاجأة.
ففي اللحظة التي انتهى فيها كل شيء، اذا باثنين من عناصر الأمن من أزلام النظام الديكتاتوري، يمسكان بيدي، احدهما عن يميني والآخر عن شمالي، وطلبا مني ان اسلمهما الأوراق، قائلا احدهم: اين هذه القصيدة التي كنت تقرأها؟.
أجبته بثبات وثقة عالية بالنفس: كيف يمكنني ان استخرج الأوراق من جيبي وقد أمسكتما بكلتا يدي؟ اتركا يديّ لاعطيكما الاوراق؟.
نظر احدهما الى الاخر وكأنهما اتفقا على تلبية طلبي بحركات في العين والجفن، فإذا بهما قد تركاني بالفعل، ولكن من دون ان يتحركا قيد أنملة عن مكانهما.
عندها استخرجت القصيدة من جيبي وسلمتها لأحدهما، لأراهما يتهافتان على الورقة ويتنافسان أيهما يقرأها اولا، وكأنهما يريدان إرواء فضولهما.
في هذه الأثناء، خطر في بالي ان أفلت من بين يديهما واهرب، وبالفعل، تسللت رويدا رويدا ورميت بنفسي بين جموع الزائرين، ثم أطلقت العنان لقدميَّ حيثما استطعت، لأجد أمامي إيوانا فيه بعض الزائرين، فرميت بنفسي في داخله، ومكثت هناك بانتظار ان أتأكد من انه لا احد يتعقبني منهما، ولما تأكد لي ذلك فكرت في ان اترك المكان واخرج الى خارج الصحن العلوي الشريف، ولما حاولت ذلك، اذا برجل يلبس الكوفية والعقال يطلب مني الانتظار وعدم الخروج، تصورت، في الوهلة الاولى، بان الله تعالى فد بعثه لي ليساعدني في التخفي والهرب عن أعين السلطة، ولكن............
مهلا مهلا، كيف عرف هذا الرجل بأنني ملاحق او مطلوب من قبل أزلام النظام؟ لحظتها راودني الشك كثيرا، ففكرت في ان اترك المكان ثانية، اذا به ينهرني بأسلوب خشن ولسان فظ، عندها تأكدت بان الرجل من أزلام النظام، وهو يحاول حبسي في المكان لحين مجيء عناصر الأمن لاعتقالي واقتيادي الى حيث يريدون.
في هذه اللحظة فكرت في البحث عن خطة للهرب من المكان ومن عيون هذا الجاسوس، فابتكرت طريقة لترك المكان، وهي، ان اتخفى بجانب احد الزائرين الذي أراد ترك المكان، ولحسن الحظ كان الزائر بدينا بما يكفيني لان اتخفى بجانبه واتسلل معه الى خارج المكان، وهذا ما كان، فلقد نجحت الخطة وأفلتُّ من عيون الرجل الجاسوس، وتركت الصحن العلوي الشريف الى الخارج، من دون ان اعرف اين يجب ان اذهب؟ لقلة معرفتي بأزقة وشوارع النجف الاشرف.
فما الذي حدث لي خارج الصحن الحيدري الشريف؟ وكيف نجوت من القوم الظالمين؟.
(8)
اعلان حالة الإنذار القصوى في صفوف المؤمنين
نجحت الخطة بحمد الله ومنّه، وتركت الصحن الحيدري لأجد نفسي في أزقة النجف الاشرف، من دون ان اعرف اين عليّ ان اذهب لاغادرها الى كربلاء المقدسة، ومنها الى جامعتي في مدينة السليمانية، لاتوارى بالكامل عن الأنظار، ثم اتسقط الانباء من بعيد لأتأكد فيما اذا كان أزلام النظام قد تعقبوني، مثلا، او عرفوني او ما الى ذلك، ليتسنى لي اتخاذ القرار المناسب عن بعد، وقبل ان أقع فريسة سهلة بيد النظام.
في هذه الأثناء، وانا أسير بغير هدى كالحيران، في أزقة مظلمة ليس فيها من يمكنني ان أسأله ليدلني الطريق، طل أمامي احد الأصدقاء الأعزاء من الثلة التي ساهمت في تنظيم مسيرة التحدي، وهو من أهالي مدينة النجف الاشرف، كان يقيم، وقتها، في مدينة كربلاء المقدسة، وكنا قد تعارفنا وجمعنا طريق الجهاد مطلع السبعينيات، فبادرني بالسؤال مندهشا: الحمد لله على السلامة، ماذا تفعل هنا؟ الى اين تريد الذهاب؟ فأجبته على الفور، بلا أسئلة، خذني الى سيارات كربلاء، اريد مغادرة النجف على الفور.
لم يتردد الاخ او يتأخر، أمسك بيدي اليمنى وانطلق بي بين الأزقة الضيقة كدليل خبير يعرف طريقه بلا تردد او تفكير.
دقائق، وإذا بنا في ساحة كبيرة مملوءة بالسيارات التي ينادي أصحابها على اسماء المحافظات والمدن بحثا عن زبائن، ركاب، للانطلاق بهم.
احدهم كان ينادي بأعلى صوته، كربلاء كربلاء، لم نتردد، قفزنا الى داخل السيارة لتمتلئ بعد دقائق بالركاب.
انطلق بنا السائق الى كربلاء لأصل المنزل قبل منتصف الليل بقليل.
حاولت في الطريق ان اشرح للأخ ماذا جرى لي بعد دخول المسيرة صحن امير المؤمنين (ع) طبعا بهمس، خشية وجود (البرغش) في السيارة معنا، وهي كلمة السر التي كنا نستخدمها فيما بيننا للتدليل على وجود عناصر الأمن وأزلام النظام البوليسي، لأخذ الحيطة والحذر في الكلام.
اطمأنَّ علي الاخ وودعني عند باب المنزل.
كنت متعبا وقلقا، الا ان التعب، على ما يبدو، غلب القلق فاستسلمت لنوم عميق، لم استيقض منه الا على طرقات باب المنزل فجرا.
ظننت انهم عناصر الأمن وقد تعقبوني ولحقوا بي الى كربلاء، لم أشأ ان افتح الباب قبل التأكد من هوية الطارق، صعدت الى سطح الدار، اذا بهما الأخوين الشهيدين سعيد الشروفي وسالم جليل النجار، وكانا من الثلة التي ساهمت بشكل مباشر في تنظيم مسيرة التحدي.
استغربت مجيئهما في هذه الساعة المبكرة، ركضت الى ساحة الدار مندفعا باتجاه الباب الخارجي، باب السياج، فتحت لهما الباب، فبادراني قبل السلام:
استعجل، بدّل ملابسك، يجب ان ناخذك الى مكان بعيد آمن؟.
قلت لهما: ما بكما؟ ماذا حصل؟ هل تعرّف أزلام النظام على هويتي؟.
اجابا باستغراب: وهل تريدهم لا يتعرفون عليك وقد اخذوا منك هويتك الشخصية؟.
فوجئت بالمعلومة، قائلا لهما: ومن قال لكما بان عناصر الأمن اخذوا هويتي الشخصية؟.
قالا: لقد وصل لنا خبر يفيد بان عنصري الأمن اللذين امسكا بك في الصحن الحيدري الشريف، قد طلبا منك هويتك، وأنك اعطيتهما ما أرادا على الفور.
في هذه اللحظة تنفست الصعداء، وعرفت لماذا جاءاني في هذا الوقت المبكر.
ضحكت، وقلت لهما: يبدو ان ناقل الخبر لم يتثبت من المعلومة، وانه تصور أوراق القصائد هويتي الشخصية.
قالا: تقصد انك لم تعطهم هويتك الشخصية؟.
أجبت: ابدا، وإنما هي أوراق مكتوب فيها آخر قصيدة كنت اقرأها في المسيرة، و