للانتخابات “فلسفة”
تحتشد الميادين والساحات العامة وشوارع العديد من المدن العربية بيافطات وشعارات تدعو لانتخاب هذه القائمة أو تلك أو هذا المرشح أو ذاك، مثلما انصرفت وسائل الإعلام وبخاصة المرئي، إضافة إلى المكتوب والمسموع إلى إجراء حوارات ومناظرات وتقديم برامج عن الانتخابات والمرشحين، وتنشغل دوائر قانونية وقضائية ومجالس دستورية ومفوضيات خاصة بمناقشة موضوع نزاهة الانتخابات وآلياتها والإشراف عليها، وتنشط مجموعات سياسية ودينية مختلفة للترويج والدعاية، في ظاهرة لم تكن مألوفة قبل سنوات، والأمر لا يقتصر على بلدان الربيع العربي فحسب، بل يشمل المنطقة بأسرها، سواء كانت الانتخابات رئاسية أو برلمانية أو مجالس محلية أو مجالس بلدية أو غيرها .
وإذا كان كلّ ذلك جديداً في العالم العربي، لأنه خلال عقود من الزمان كانت انتخاباته في الأغلب شكّلية وروتينية، بعضها محسوم سلفاً بما فيها نسبة الفوز، وبعضها الآخر شهد عزوفاً شعبياً عن المشاركة، وفي حالات أخرى كانت هناك مقاطعة من جانب القوى خارج السلطة، وفي بلدان أخرى، لم تكن مسألة الانتخابات مطروحة أصلاً، لكنها اليوم جزء من الاستحقاق الكوني، فما تعني الانتخابات؟ وكيف يتم التعاطي مع هذا المولود الجديد؟ وما السبيل لكي تكون نتائج هذا الحراك الشعبي متوافقة مع الطموحات ومنسجمة مع التطور العالمي في هذا الميدان، مع مراعاة الخصوصية الوطنية والحساسية الثقافية والاجتماعية؟
تستهدف الانتخابات عاملين أساسيين، الأول تأكيد شرعية الحاكم والحكم أحياناً، من خلال رأي المحكومين، والثاني إجراء تغيير حسب وجهات نظر الجهات المتنافسة . وفي عالمنا العربي فإن المنافسة هي أقرب إلى الصراع، لاسيما بعد أن طويت صفحات التغيير الدراماتيكية التي اتسمت بانقلابات عسكرية وعملية تثوير للمجتمعات بإجبارها على خيارات للتطور لم تؤد إلى النتائج المرجوّة، بل إن أغلبيتها الساحقة عادت القهقري وتراجعت، في حين أن البلدان التي شهدت طريق التطور التدريجي التراكمي، حقّقت استقراراً وتقدّماً وتنمية أكثر عقلانية، وعليه فإن وسيلة التغيير الراجحة اليوم هي سلمية مدنية تراكمية ومن خلال صندوق الاقتراع .
الشرعية حسب فلسفة الانتخابات تقتضي أن تكون مستمدّة من رأي المجتمع ومن خلال الدولة وقوانينها التي تتطلب الاستقرار أولاً وقبل كل شيء، فالحكومة تأتي عبر صندوق الاقتراع وتذهب عبره، أما الدولة فتتعزز بمن يفوز ومن يقدّم الأفضل، سواء في حال الوصول إلى السلطة أو عند البقاء في المعارضة الدستورية في البرلمان أو خارجه، وهذه هي قاعدة الديمقراطية، حيث يتم التنافس الحر لتحقيق الغايات المرجوّة .
وإذا كانت هذه الغايات تنسجم مع طموح الناس وتطلعاتهم، فلا بدّ أن تكون شريفة، ولهذا فهي تحتاج إلى وسائل شريفة لتحقيقها، فالوسيلة ترتبط ارتباطاً عضوياً بالغاية، وهي مثل الشجرة من البذرة حسب تعبير غاندي . وللتغيير خططه التي يحدّدها البرنامج الانتخابي للقوى المتنافسة، سواء كانت آنية (مباشرة) أو قصيرة المدى أو طويلة، مثلما لها جوانب أخلاقية وقانونية، ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية وثقافية وتربوية، تتعلق بالتنمية والصحة والعمل والبيئة وغير ذلك .
وكلّ تغيير لا بدّ أن يستند إلى العملية الانتخابية ذاتها التي تحتاج إلى قياس درجة مشاركة الناس وحجمها، ثم معرفة مدى القبول في اتجاهات الصراع وعلى أي الأهداف يتم التركيز، وهذا يحتاج إلى معرفة تطوّر الوعي، ثم مدى نزاهة الانتخابات وشفافيتها وانسجامها مع المعايير الدولية التي اعتمدتها الأمم المتحدة، لاسيّما في مجال المراقبة في العام ،2010 سواء فيما يتعلّق بدرجة التمثيل والقوانين الانتخابية واستقلال القضاء وفاعلية الحكومة وحياديتها، وعلى المرشحين والناخبين وغير ذلك، وهذا يعتمد على البرامج الانتخابية للأحزاب والقوى المتنافسة .
وتبرز المشكلات والاستعصاءات لدى النخب وليس لدى الناس المتعايشين المتفاعلين، حيث تم، صناعة أو استزراع تلك المعضلات من خلال التحريض والشحن الطائفي أو المذهبي أو الإثني، ومحاولات الاستحواذ على أصوات الناخبين حيث يجري العزف على العواطف والمشاعر، التي غالباً ما تتأثر بالطارئ والظرفي والمؤقت، وتأخذ بردود الأفعال على حساب الاستراتيجي والعام والمشترك الوطني، وهي الطريقة الأسهل والأكثر فاعلية لتأمين المصالح والحصول على الامتيازات والمكاسب .
ولا يتحقق التغيير اليوم إلاّ من خلال آليات قانونية، تلك التي تعكس ما نطلق عليه فلسفة الانتخابات والتحوّل التدريجي البطيء، التداولي للسلطة، خصوصاً وقد أسدل الستار على بيان رقم (1) والدبابات التي تتحرك باتجاه محطة الإذاعة والتلفزيون وبضعة مسلحين داعمين لقطعات عسكرية لتحسم الأمور، ليتم انتقال السلطة من "شرعية" قديمة إلى "شرعية" جديدة ثورية، سواء كانت باسم الدين أو القومية أو الأهداف الاجتماعية، مع وعود وآمال عريضة وأحلام لدرجة الأوهام أحياناً، وهو ما ساد في العديد من دول العالم الثالث، ومنها بلداننا العربية التي تتحدث اليوم عن الانتخابات، مثلما هي الحال في الجزائر وليبيا وسوريا ولبنان والعراق ومصر وتونس واليمن وفلسطين والمغرب وموريتانيا والعديد من دول الخليج وغيرها، وتعكس خريطة الانتخابات توزّع القوى ودور التيارات السياسية والفكرية في الساحات العربية .
الانتخابات في الوقت الحاضر هي أكثر العناصر تحدّياً وحساسية كوسيلة للتغيير سواءً للنظم القائمة أو لعملية الانتقال الديمقراطي، لاسيّما علاقتها بمدى احترام حقوق الإنسان والحريات العامة، وخصوصاً الحقوق والحريات السياسية المعرّفة بالشرعية الدولية، والأمر له علاقة مباشرة بالإطار القانوني والإداري لتنظيم الانتخابات انطلاقاً من المادة 21 للإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في العام 1948 التي تنص على أن "إرادة الشعب هي أساس سلطة الحاكم ويتوجّب أن تتجلّى هذه الإرادة من خلال انتخابات نزيهة ودورية . . ." .
وقد ساعدت الأمم المتحدة في إجراء انتخابات واستفتاءات للدول التابعة والمستعمَرة لتمكينها من حكم نفسها، وخصوصاً بعد قرار القضاء على الكولونيالية الصادر في العام 1960 برقم ،1514 كما ساهمت في توفير المساعدة التقنية للانتقال الديمقراطي وتسهيل إجراء انتخابات نزيهة وذلك من خلال تأكيد: الحق في المشاركة، والحق في تقلّد الوظائف العامة من دون تمييز والحق في التصويت، والحق في التعبير، والحق في التنظيم، والحق في الاعتقاد، وهي ما نطلق عليها الحقوق السياسية الأساسية بعد حق الحياة .
وإذا كان لا يوجد نظام ديمقراطي عالمي نموذجي واحد يصلح لجميع البلدان والشعوب، فإنه بالطبع لا يوجد نظام انتخابي واحد يصلح لجميع الدول أو يجسّد جميع المعايير الدولية المطلوبة، ولا بدّ من أخذ خاصية البلدان وثقافتها وتاريخها ودرجة تطوّرها وتكوينها الاجتماعي والديني والقومي والفئوي بنظر الاعتبار، إذ إن صياغة الأنظمة الانتخابية تقتضي مراعاة مدى قدرتها في أن تكون بمتناول الناخب الاعتيادي، مع تأكيد احترام التعددية القومية والدينية والسياسية وغيرها، يضاف إلى ذلك تشجيع هذه القوى على المشاركة وضمان قيام برلمان ذات صفة تمثيلية وحكومة مستقرة بتعزيز الشعور بالمسؤولية، مع وجود رقابة برلمانية من جانب القوى المعارضة، وتلك هي أهداف التنمية .
إلى أي حد انطبقت المعايير على انتخابات الجزائر والعراق؟ تلك مسألة خلافية ستظل قائمة، وكل تقدّم محرز أو تراجع مُظَهر، سيفعل فعله في المستقبل، وهو ما ينتظر الانتخابات المصرية الرئاسية والبرلمانية، وكذلك الانتخابات البرلمانية التونسية والانتخابات اليمنية والانتخابات الليبية والانتخابات الفلسطينية وأيضاً الانتخابات السورية واللبنانية وغيرها من الانتخابات العربية .
عبد الحسين شعبان
صحيفة الخليج الاماراتية ، 7/5/2014