كاترين، زها، ام ناصر مقال عادل سعد المنشور في صحيفة الوطن العمانية يوم 2020/3/5
عادل سعد
بعيدا عن بريق الاكسسوارات وطلاء الوجوه واخر صيحات الموضة القماشية ، وبعيدا عن مهرجانات العري وفاقة الحشمة وذاكرة الغناء النسائي الخليع ، وبعيدا عن متواليات الفيلر لأزالة تغضن او تجاعيد ،بعيدا عن كل ذلك ، لايستقيم الاحتفاء بألمرأة الا بأستذكار وجوه نسائية مشرقة تستحق الثناء واشهار الاحترام لها .
القائمة طويلة جدا ، ولكن تحضرني هنا ثلاث منهن ، يستحقن رفع القبعات ،بل وكل اغطية الرأس الاخرى تقديرا لهن . السيدة الامريكيةالمبجلة ، عالمة الرياضيات كاترين غووبل جونسون ذات الاصل الافريقي ، التي رحلت الى مثواها الاخير في الرابع والعشرين من الشهرالماضي فبراير شباط 2020 ، عن عمر ناهر 102 سنة قضت اغلبها في وكالة الفضاء الامريكية (ناسا) حيث يتندر الامريكيون عنها تحببا انها (معادلة حسابية بأيقاع نسائي) وقد رثاها مدير ناسا (ان ارثها العلمي لايمكن ان ينسى)
ما يحسب لهذه السيدة الزنجيةالعظيمة دماثتها المعرفية في تمازج سلوكي نظيف عالي الجودة كان رواد الفضاء الامريكيون يصغون لها بدقة وهي تسرد امامهم وقائع رحلاتهم في الفضاء ضمن معادلات حسابية للميكانيكيا المدارية وكأنها تروي لأ طفال حكاية جميلة مدهشة ، عندها يعتريهم الانذهال والحبور من تلك الحسابات فيزيل عن كاهلهم كل محركات الغموض والخوف ، ويصعدون الى قمرات السفن الفضائية بضمانة معادلاتها ، والاسبق في مسيرتها العلمية انها وضعت كل العمليات الحسابية لأول سفينة فضاء امريكية تهبط على سطح القمر فاتحة بذلك عهد موقعي لغزو الفضاء المعادلات الحسابية الرياضية المماثلة ولكن بايقاع تشكيلي مبهر ، كانت ايضا من اختصاصات المهندسة المعمارية العراقية الراحلة زها حديد التي ادهشت العالم بتصاميمها المفعمة بالجمال الاخاذ الذي لا يترك للناظر الا ان ينحني امتنانا لها ،
التناغم المعماري المحسوب يحكم اغلب تصاميمها ، لبيوت وبنوك ودور اوبرا ومراكز فنون ومتاحف تراثية وملاعب رياضية وواجهات متنزهات ومنازل اسر فقيرة ، بل وماو ( جمع مأوى ) لمشردين ، حتى قيل ان تصاميمها تتحدث عن معالمها بثقة زهرة تجمع بين بشارة اللون وانحناءات الخطوط .
لقد نقل لي ابني المهندس (قصيد) الذي هاجر الى بلجيكا وهو مواطن بلجيكي الان كيف ان البلجيكيين يحرصون على تقديم الشكر لها حين يمرون مستطلعين بناية صممتها ، لأنها لبت طلبهم في الحفاظ على الهيكل التراثي القديم الشاخص لدار الاطفاء التي اصبحت مقرا لأدارة ميناء مدينة انتويوب.
لقد تولت تصميم هيكل مضاف في معاشقة هندسية بنيوية رائعة بين الهيكلين ،وجاء انجازها هذا بعد فوزها في منافسة مع مئة مهندس من مختلف انحاء العالم انتهت بين اثنين هي ومهندس ياباني بارع ، لكن المفاضلة رست عليها بالنتيجة النهائية وتكريما لها سميت الساحة القريبة من البناية بأسمها للعلم والاطلاع الى الان ، تعاني الذاكرة العراقية من متلازمة الجهل بشان تلك السيدة ، وحين يدان هذا الجهل يكون التبرير جاهزا ، المصائب اولى بالاهتمام عراقيا مادمنا بارعين في انتاج ثقافة النواح .
ويحضرني ايضا فهرس حياة الفلاحة العراقية أم ناصر التي فقدت زوجها وابنها الكبير على التوالي في اثنين من جولات العنف الطائفي ، كانا كادحين متميزين في رعاية حقل زراعي تملكه الاسرة ضمن أحدى ضواحي بغداد فما كان منها بعد اتمام مراسم العزاء الثاني، اي على روح ابنها ، الا امتطاء الجرار الزراعي للمرة الاولى وواصلت العمل في الحقل امتدادا لمواظبة زوجها وابنها ، وظلت عدة اشهر توزع من طماطم وخضروات حقلها على بعض الاسر الفقيرة في الحي الذي تسكن العائلة فيه ثوابا للراحلين الاثنين
لا شك ان هناك جسورا بين كاترين ، وزها ، وأم ناصر ، جسور لا يدرك امتدادها الا الواثقين من اسبقيات المواظبة والاصرار على تحقيق ما يصلح ان يكون محط اعتزاز ، هي اليقظة المبكرة ، او نهوض اللحظة الحاسمة ،لا فرق .
جوهر الحقيقة ان العبقرية هي الجهد المتواصل ،وان من يملك الطريق لا ينام على رصيفه ، فرص الراحة والاستجمام يمكنها الانتظار ، وموجبات الحياة ان تنر الزاوية التي انت فيها كما يرى الصينيون
يقيني ان السيدات الثلاث بدأن المثابرة من دون انتظار ان يحظى عطاؤهن باي امتياز ، او البحث عن مكاسب شخصية ، تماما كما تتماهى الانهار في نعمة اطفاء العطش بكرم لايفرق بين نبتة واخرى ، او كائن حي واخر ، الانهار لا تصنع لنفسها الضفاف ، بل تصنعها الطبيعة لها ، والبخل كل البخل من حصة الذين يصنعون حدودا لعطائهم المثمر
لاشكوك في الخلاصة القائلة ، الاسخياء الحقيقيون في العمل هم احبة الله ، بدون مفاضلة في الجندر ( النوع الاجتماعي )