قرينة البراءة ومظلومية الذئب
يغري مفهوم (قرينة البراءة) بإثارة المزيد من الأسئلة عن القيمة الإجرائية، البعض منها لأشخاص لن تغمض لهم جفون إلا بعد أن ينْأوا جهارا من عيوب أو شوائب أو سقطات أقحمت عليهم، أو وجدوا أنفسهم فيها عنوةً فيضطرهم المشهد إلى إعلان براءاتهم منها. وقد يكون الحاصل بنسخة جماعية، كما هو الحال لقبائل أو شركات أو دول حين تعلن براءاتها ترفعا من أعمال التصقت بها في لحظة ما استغلالا أو بسبب خطأ، وعندها يتناوش (من المناوشات) الصدق والكذب بعضهما البعض، أي يختبر أحدهما الآخر وصولا إلى العدل الذي هو الفرصة السانحة الوحيدة التي لا مناص منها إذا كانت البراءة بنيَّة صادقة، وليس يراد التنصل حيث تتداخل الخنادق كما يقال، ويتسلط غبش الرؤية.
البراءة رفيق القضاة عندما لا يتوافر لهم الدليل للتجريم، وكثيرا ما تستخدم قلة كفاية الأدلة، أو ضعف القرينة لصالح المتهمين. يقول الصديق القاضي الدكتور أحمد الحريثي مؤلف كتاب المعتزلة (في الكثير من الأحيان قد تستخدم ذريعة البراءة طوقا للنجاة على غير وجه حق؛ لذلك تظل بعض الدعاوى القضائية تأكل وتشرب معي، فأتقاسم الأرق معها إلى أن أصفو على قناعة قانونية منها).
أجزم أن ما قاله القاضي الحريثي يمثل متلازمة الاشتغال القضائي العادل وهي بالحساب النهائي قضية جدلية، وبعيدا عن تجاذبات هذا المشهد، تظل براءة الذئب من دم يوسف الشاهد الأزلي على التهم الملفقة وما أكثرها هذه الأيام، حيث يتسابق البعض إلى نفي مسؤوليتهم، وتعليق ما جرى لهم على الآخرين برغم ما يمكن أن يلحق ذلك من ضرر بالغ بالحقيقة.
لقد فعلها إخوة يوسف، وبالمقابل لفت نظري في المشهد الانتخابي الرئاسي الأميركي قائمة موظفين كبار ضمن طاقم الرئيس الأميركي ترامب الذين أقيلوا، أو استقالوا تحت ضغط التزام الحقيقة المكانية بأقوالهم أنهم لم يرصدوا أي تزوير في سير الانتخابات خلافا لما يصر عليه الرئيس ترامب من اتهامات بحصول تلاعب في الأصوات لصالح خصمه جو بايدن.
هؤلاء الموظفون الأميركيون جمهوريو الانتماء والهوى السياسي، ولديهم امتيازات لا تحصى. وإذا كان الحال أصلا على وفق ما (يغرد) الرئيس ترامب فلماذا أطاحوا بأنفسهم مفضلين النجاة بضمائرهم برغم سعة مصالح الوظائف التي كانوا يتمتعون بها؟ أما في الواقع الإقليمي العربي، فللبراءة جولات لا حدود لها وما زالت تتجدد، الكل يدعي الوصل بها على قياس ادعاء الوصل بليلى التي أعلن عن مرضها ضمن أسبقية زمنية على جائحة وباء كورونا، ومنهم من يذهب بعيدا ليطرحوا أنفسهم أطباء اختصاص لا يشق لهم غبار في التصدي لها.
يا لخيبة البراءة حين تكون شهادات الزور قاطرة الوقائع، وبعضها بعبارات يصاحبها رنين الضخامة التي أدانها الزعيم الهندي الراحل نهرو بقوله (إن الكلمات الكبيرة ليست أعمالا كبيرة باستمرار)، أي ليس كل إعلان براءة براءة حقيقية، ومن هنا لا بد أن نتوخى الحذر من البراءات، لأنها قد تكون على شاكلة حصان طروادة.
عودة على بدء ومن قائمة وثيقة المخاطر التي ترتبت على فعلة إخوة يوسف، تظل البراءات الزائفة أغطيةً للنزعات الطائفية والمناطقية والتخصص بكيل التهم للآخرين، وهي ذاتها شمَّاعة الذين يختفون وراء أصابعهم معلنين أن معركتهم المركزية التصدي للفساد، ورغم ذلك ما زال هذا الورم خارج سيطرة تعريف قاموس جامعة أكسفورد.
الحال، الخلل في نصوص وأهداف بعض البراءات المعتمدة، وإلى أن تستعيد عناصرها الكيميائية الحقيقية ستظل محنة العيب تتعايش معنا وتتقاسم النفوذ، وتلقي اللوم على الآخرين، و… و…. بل وعلى (الزمن التعيس).
لقد قالها الإمام الشافعي (نعيب زماننا والعيب فينا) مانحًا شهادة حسن سلوك وبراءة للزمن، إنه محق تماما في ذلك.