في الحاجة إلى التسامح/ منظور إليها عراقياً!
عوضاً عن المقدمة
لا زال الحديث عن التسامح مبعث ارتياب لدى الكثير من النخب الفكرية والثقافية والسياسية العربية بشكل عام، وتعود أسباب ذلك إلى الاستقطابات السياسية الحادة وأبعادها الإقليمية والدولية، واسقاطاتها الحالية على الواقع، إضافة إلى أن جزءًا منه يتعلق بالفهم القاصر والمحدود لمعنى التسامح ومبناه، ناهيكم عن توظيفاته أحياناً.
وقياساً للدراسات والكتابات التي عرفها الغرب2 عن التسامح والمعالجات التي أعقبت الاحترابات والنزاعات الدينية والطائفية التي عانت منها أوروبا لدرجة النزيف البشري، المادي والمعنوي، فإننا لا زلنا حديثي عهد، بخصوص تقبّل فكرة التسامح في ظلّ استشراء التعصّب وتفشّي التطرّف وانتشار الغلو، إزاء الآخر " الغريب"، وكل غريب "مريب"3، سواءً كان هذا الآخر بعيداً أو قريباً، عدواً أو صديقاً، طالما هو مختلف عنّا، حتى وإن كان مساكناً أو مشاركاً لنا في العيش والحياة والمصير، لكنه قد يكون مختلفاً في الدين أو العرق أو اللغة أو التاريخ، حتى وإن كنّا في وطن واحد، ولعلّ هذه النظرة الانغلاقية التي لا تقبل التنوّع والتعددية انتشرت على نحو واسع خلال السنوات الثلاثين ونيّف الأخيرة، على الرغم من التطور النقيض لها على المستوى الكوني.
وتفصلنا عن فكرة التسامح "الأوروبية" أكثر من ثلاثة قرون من الزمان، إذا اعتبرنا رسالة جون لوك حول التسامح تاريخاً لنشر الفكرة، لا سيّما في ظل انقطاع العرب والمسلمين عن تراثهم الذي عرف بنماذج زاهرة من التسامح، مثلما عرف تاريخاً دامياً من اللاتسامح، كما هو الغرب أيضاً في إطار السياق التاريخي لجميع المجتمعات.4
وإذا أردنا الحديث عن فكرة التسامح بمعناها المعاصر، خصوصاً وقد مرّت بمراحل مختلفة وجرى تأصيلها، بتجاوز بُعدها الديني والطائفي إلى البعد الثقافي، وصولاً إلى البعد الحقوقي والقانوني، بحيث لم تعد واجباً أخلاقياً وسلوكياً أو مبادئ ودعوات سياسية فحسب، بل هي واجب قانوني لإقرار التعايش والتعددية والتنوّع وحق الاختلاف والدعوة للمشترك الانساني، فلا بدّ من بحثها في إطار التطور الدولي، وخصوصاً في المباحثات التي سبقت وهيأت لقيام الأمم المتحدة، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، فلا بدّ من الحديث عن فهم الفكرة وحيثياتها القانونية وخلفياتها الفكرية ومرجعياتها النظرية.
وبعد صدور ميثاق الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو 26 حزيران (يونيو) العام 1945 ومن ثم صدور الاعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10 كانون الأول (ديسمبر) 1948، بدأت ثقافة التسامح تنتشر شيئاً فشيئاً ويتعزز رصيدها، خصوصاً بتأثير الحرب العالمية الثانية التي أزهقت أرواح نحو 60 مليون إنسان وألحقت خسائر مادية ومعنوية بعموم سكان الأرض، وصولاً إلى صدور إعلان اليونسكو بشأن التسامح العام 1995 والدعوة للاحتفال باليوم العالمي للتسامح 16 تشرين الثاني (نوفمبر) من كل عام، فإن بعض الدراسات والأنشطة المحدودة بدأت تجد طريقها إلى العالم العربي لا سيّما في العقدين ونيّف الماضيين، لكن تأثيراتها سواءً على الصعيد الفكري أو الثقافي كانت مقتصرة على نخب قليلة، ناهيكم عن ضعف مفاعيلها على الصعيد الاجتماعي والديني، بحكم ضعف البيئة القانونية والتربوية والتعليمية، سواءً على صعيد الدولة أو المجتمع أو الفرد5.
ومع ذلك فإن هناك أكثر من فهم لفكرة التسامح، ومثل هذا الفهم المتناقض يؤدي إلى نتائج متعارضة بالطبع. فالفهم النيتشوي الذي لا يزال سائداً يعتبر " التسامح إهانة للآخر"، ولعلّ ذلك ما لمّح له البابا بنيديكتوس السادس عشر في خطابيه في لبنان في القصر الجمهوري وفي الإرشاد الرسولي، حين عبّر عن تخوّفه من أن يؤدي التسامح إلى التطرف والإساءة للآخر، في حين أن المطلوب هو الاعتراف بالآخر وبالمساواة والمواطنة، وفعلياً للانتقال لما بعد التسامح6.
لعلّ هذه مناسبة لطرح سؤال كان الصديق البروفسور خليل الهندي قد طرحه في مفتتح ملتقى انعقد في لندن حول التسامح، وهو سؤال في غاية البساطة والأهمية في الآن: هل يوجد تسامح لننظّم له ملتقانا أم أن غيابه يدعونا لتنظيم فعاليات للتذكير بجوهره؟
ومثل هذا السؤال المزدوج والمركّب ظل يتردد طيلة العقدين ونيّف الماضيين وبأشكال مختلفة، نفياً وإيجاباً، واستمرّ صداه إلى اليوم: هل نقرّ بواقع أليم أم نتوسّم أملاً بواقع جديد، وهو ما طبع الجدل والحوار، اختلافاً واتفاقاً، تباعداً وتقارباً طيلة الفترة الماضية، على الرغم من المشتركات، لكن الأمر يحتاج إلى الاعتراف كلٌ بالآخر وتأكيد قيم التسامح مع بعضنا البعض دون تكفير أو تأثيم أو تحريم أو تخوين أو تجريم، أو غير ذلك من عوامل الإقصاء والإلغاء والاستئصال وعدم احترام الحق في التنوّع والتعددية والاختلاف.
وحسناً فعل اليوم مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية حين قرر نشر دراسة مهمة الدكتورة فاتن محمد رزاق الخفاجي، الموسومة " التسامح في فكر الأحزاب العراقية المعاصرة" خصوصاً وأن ما هو سائد في العراق والعالم العربي والاسلامي من ارهاب وعنف ونزاع واحتراب يؤكد الحاجة الماسّة إلى نشر وتعزيز قيم التسامح لتصبح ثقافة سائدة، فلحدّ الآن لا تتوفر إرادة سياسية جماعية على مستوى الدولة للاعتراف بقيم ومبادئ التسامح، ناهيكم عن احترامها والالتزام بها اجتماعياً وسياسياً وقانونياً من جانب المجتمع والفرد.
يضاف إلى ذلك ضعف الثقافة العامة والفردية إزاء قيم التسامح التي لا تزال متدنّية، بل غائبة في الكثير من الأحيان، ويُنظر إليها بازدراء أو استخفاف أحياناً، باعتبارها عامل ضعف وليس قوّة، الأمر الذي أدّى إلى تشبّث الكثير من الجماعات بالتعصّب والتطرّف بجميع أشكاله الديني والطائفي والإثني والعشائري، إزاء الآخر، سواءً كان غربياً، أي غير عربي أو مسلم من طائفة أخرى أو غير المسلم مثل المسيحي أو اليهودي أو الصابئي أو الأيزيدي أو سواهم، أو غير العربي مثل: الكردي أو التركماني أو الأشوري أو الأمازيغي أو غيرهم.
وقد حاولت الباحثة التوقف عند هذه الظاهرة المثيرة والملتبسة، لا سيما عند الحديث عن مقوّمات التسامح ومعوّقاته ، ففي الأولى تحدثت عن المواطنة والديمقراطية والثقافة والتربية، وكان بودي التركيز أكثر على درجة التطور الاجتماعي والاقتصادي وانعكاساته القانونية في ظل بيئة تشريعية ووجود مؤسسات قانونية ضامنة، لا سيّما للمساءلة وقضاء مستقل ونزيه، إضافة إلى دور للمجتمع المدني، كما يمكن للاعلام أن يلعب دوراً إيجابياً على هذا الصعيد، وبذلك يمكن بناء لبنات التسامح بصورة تراكمية وتدرّجية وتطوّرية متينة وعلى مختلف الصُعد، كمسار طويل.
أما المعوّقات، فإضافة إلى التعصّب والاستبداد والعنف وهو ما تناولته الدكتورة الخفاجي بشكل عميق، فإن الطائفية والعنصرية وإن كانت من نتاج التعصب والتطرف والغلو، لكنهما شكّلتا تاريخياً منبعاً لسيادة الفكر اللامتسامح وشجعتا على التعصب والعنف والإقصاء والإلغاء، لأن هذه المظاهر نتيجة وليست سبباً، وإن كان هناك علاقة عضوية بين العلّة والمعلول حسب قول الفلاسفة.
معنى التسامح وتاريخه!
إذا عُدنا إلى أصل المصطلح Tolerence فقد استخدم منذ القرن السادس عشر بمعنى أقرب إلى المفهوم السياسي والأخلاقي والسلوكي إزاء الآخر، من المذاهب الدينية، في حين أن استخدامه كمفهوم قانوني Toleration، بدأ بعد إصدار بعض الحكومات الأوروبية في القرنين السادس عشر والسابع عشر مراسيم تدعو إلى التسامح وتطلب من موظفي الدولة والسكان تطبيق حكم القانون The rule of law وأن يكونوا متسامحين في سلوكهم إزاء "الأقليات" الدينية الأخرى، مثل أنصار الراهب مارتن لوثر، وهو الأمر الذي مهّد لتموضع ثقافة جديدة تعتمد على مبادئ التسامح، لا سيّما بإقرار التعددية والتنوّع والحق في الاختلاف والتمايز والخصوصية.
ومن القوانين التي صدرت في حينها "مرسوم نانت" في فرنسا الذي وقعه الملك هنري الرابع في 13 نيسان/ابريل العام 1598 حيث يعتبر أول اعتراف رسمي بالتسامح الديني، وذلك بعد خمسين عاماً من الصراع الداخلي والانقسام الديني والطائفي. وبموجب مرسوم نانت سُمح للبروتستانت الفرنسيين الذين يطلق عليهم " الهوغونت" بحرية المعتقد والمساواة الاجتماعية والسياسية مع الأغلبية الكاثوليكية الرومانية، لكن هذا القانون ألغي من قبل الملك لويس الرابع عشر في العام 1685، ونتيجة ذلك غادر نحو 200 ألف هوغونوتي فرنسا.
وفي انكلترا صدر قانون التسامح The Toleration Act عن البرلمان في العام 1689 بعد ما سمي بالثورة التشارتية " الجليلة" العام 1688 وكان ثمرة جهود سياسية مضنية لمفكرين مثل لوك الذي وضع رسالته الشهيرة "رسالة في التسامح" إضافة إلى "رسالتين في الحكم" لتشتمل على مبدأ فصل الكنيسة عن الدولة، والذي شكل حجر الأساس في الديمقراطية المستقبلية، ومؤدّى قانون التسامح " الديني"، الذي أصدره " البرلمان الإنكليزي" أن للمخالفين للمذهب البروتستانتي (الرسمي) الحق في ممارسة طقوسهم بصورة علنية، أما أتباع الكنيسة الكاثوليكية وكنيسة الموحدين، فقد ظلّوا محرومين من هذا الحق حتى العام 1829 .
ولا بدّ من الإشارة إلى مجايلي لوك الذين بشروا بقيم التسامح الديني مثل بيير باييل وغروتشيوس وسبينوزا، إضافة إلى فولتير الذي يعتبر محطة مهمة من محطات فكرة التسامح بعد لوك، فكانوا جميعاً قد نظروا إليه باعتباره مسألة أقرب إلى فريضة دينية وليس إقراراً بالآخر كنوع من التعددية الثقافية، وحتى هذه المسألة ظلّ يشوبها تشويش كبير استمر حتى الآن، وإذا كان باييل يؤمن بالتسامح بين الكاثوليك والبروتستانت وإزاء المبشرين المسلمين في الدول المسيحية، شرط عدم تعكير صفو النظام والأمن، فإن لوك لا يؤمن بالتسامح مع الملحد، وكذلك يضع عقبات أمام التسامح مع المسلم (التركي)، إضافة إلى الكاثوليكي، لأن هؤلاء " غير متسامحين" وولاءهم لسلطة أخرى أجنبية، وتلك إحدى المسائل المطروحة اليوم بخصوص الموقف من غير المتسامحين، فهل يتم التعامل معهم بالتسامح أيضاً لأن ذلك سيؤدي إلى نسف فكرة التسامح وتمكين غير المتسامحين من إلحاق الضرر بالمتسامحين وبالمجتمع ككل!؟
وإزاء الانغلاق وعدم التسامح الذي يسود عالمنا العربي والإسلامي، فإننا نرى أن العالم يسعى لتوسيع التسامح حقـوقياً بعد أن جرى تعميمه أخـلاقياً، بحيث تشتمل الدعوة، الدفاع عن أولئك اللامتسامحين أو الذين ينشرون ويروجون لأيديولوجيات اللاتسامح "التوتاليتارية". ومع أن هذه الفكرة تثير نوعاً من النقد وربما الفزع في الغرب حالياً، خصوصاً بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر ) 2001 الارهابية في الولايات المتحدة، لأن هناك من يعتبرها خطراً على فكرة التسامح، بل وتدميراً للحرية، الجوهر الأساسي في فكرة التسامح، لكن هناك من يحاول إيجاد مبررات لها، ويرى كارل بوبر في كتابه " المجتمع المفتوح وأعداؤه" 7 إننا نمتلك الأسباب التي تدفعنا إلى رفض التسامح مع المتعصبين، موضحاً أن هناك حدوداً للتسامح، ولكن في الوقت نفسه يستدرك فيقول: بأن علينا عدم الانخداع بذلك الشعور الغريزي بأننا على صواب دائماً 8.
ولعلّه من الصعوبة تحقيق التوازن خوفاً من تحوّل المجتمع القائم على التسامح إلى مجتمع متعصب، لكن جون راولز في كتابه " نظرية العدالة" 9 يعتبر أن من واجبات المجتمع القائم على العدل أن يكون متسامحاً، الأمر الذي يقود إلى التسامح مع المتعصّب، والاّ سيتحوّل المجتمع إلى مجتمع متعصّب وغير عادل، مع تأمين الحماية. وتجدر الاشارة هنا إلى أن أفكار لوك بخصوص التسامح الديني وجدت طريقها إلى دستور الولايات المتحدة بعد أن تبنّاها توماس جيفرسون ولقت نجاحاً كبيراً.
وبعد فوز الإسلاميين في الجزائر جرى نقاش واسع حول مستقبل الديمقراطية الوليدة، وهو النقاش الذي انفتح اليوم على مصراعيه بفوز الإسلاميين، بل ودورهم ومكانتهم في: الباكستان وأفغانستان وإيران وتركيا والعراق والمغرب وتونس ومصر والسودان (حيث يحكمون)، إضافة إلى نصف فلسطين (غزة) ونصف لبنان (حزب الله) ودورهم الكبير في اليمن ونفوذهم الواسع في الجزائر وقوتهم في ليبيا ونشاطهم المتميّز في الأردن، ووصولهم إلى البرلمان في البحرين وقيادتهم لحركة المعارضة فيها، وحصولهم على مقاعد برلمانية أكثر في الكويت، بل اتّساع حركتهم على صعيد الخليج بشكل عام، إضافة صراعهم المسلح في الصومال ودورهم الفعّال، وكذلك وجودهم القوي في موريتانيا وصولاً إلى تشاد ومالي.
والسؤال الذي سيظل مفتوحاً، وربما لن يجد جواباً شافياً: كيف سيتكيّف الإسلاميون بقربهم من السلطة أو بوجودهم على قمة هرمها، مع قضية الديمقراطية والدولة المدنية، وهو سؤال بحاجة إلى أن يجيب عنه اليساريون والقوميون أيضاً، وجميع الكتل والجماعات السياسية ذات الصفة الشمولية، وهو ما حاولت الباحثة الدكتورة الخفاجي الخوض فيه .
لا أظن أن الإسلاميين في مختلف أقطارهم سيكررون خطأ الإسلاميين الجزائريين الذي أعلنوا بأنهم سيئدون الديمقراطية حالما يصلون إلى السلطة، الأمر الذي ألّب الكثير من القوى ضدهم، " لكنه من غير مقبول، وغير شرعي" الإطاحة بهم بقوة السلاح، وهو ما قام به الجيش الجزائري بحجة "حماية الديمقراطية" المهددة على أيدي من حصل على الأغلبية . ومثل هذا الأمر تحاول اليوم بعض الأطراف التوسّل به للتخلص من الإسلاميين الذي وصلوا إلى السلطة عبر صندوق الاقتراع، بل أن بعضهم من أنصار التيار شبه الليبرالي في مصر أخذوا يخاطبون الجيش ويستحثونه للخلاص من حكم " الأخوان" ولفضّ النزاع بينهم وبين الإسلاميين، وتلك إحدى مفارقات السياسة، خصوصاً في ظل تفشي ثقافة اللاتسامح، وبالمقابل فإن الاسلاميين يسعون وبسرعة لوضع أيديهم على المفاصل المهمة في الدولة، لكي يطبعوا الحكم بطابعهم، بزعم الديمقراطية وحصولهم على الأغلبية البرلمانية.
وهكذا تصبح الديمقراطية في نظر البعض "مرذولة" فيما اذا تعارضت مع مصالحهم، في حين أنها ديمقراطية "محمودة" فيما اذا كانت نتائجها تنسجم مع ما يريدون تحقيقه من أهداف أو مكاسب. ويبدو الأمر وكأنه مفارقة حقيقية حين تصبح الديمقراطية "المفقودة" أقرب إلى شبح، أما الديمقراطية " الموعودة " فهي مجرد حلم بعيد المنال، ولعلّ ذلك واحدة من مفارقات التغييرفي العالم العربي، ولا سيّما أحداث الربيع العربي بعد العام 2011 10.
وقد فتحت أحداث 11 ايلول ( سبتمبر ) 2001 وفيما بعد الحرب على أفغانستان والعراق النقاش والجدل على نطاق واسع حول الاجراءات الواجب اتباعها ازاء اللامتسامحين، بل الذين يريدون تدمير قيم التسامح والتصدي لما انجزته الحضارة البشرية حتى وإنْ كان باسم التسامح أحياناً أو باسم العدالة أو استعادة الحقوق، وهو الأمر الذي بحاجة إلى ضوابط قانونية وسياسية وأخلاقية بحيث يمكن إرساءه على قاعدة متينة وصلبة، ولا يتم توظيفه بالضد من قوانين التسامح ذاتها أو البيئة التي تساعد عليها.
لكن الأمر لا يقتصر على تسمية بعض الاتجاهات او التيارات، بل استغلّ الامر بطريقة انتقائية و فيها الكثير من ازدواجية المعايير لادخال المنطقة العربية – الاسلامية و حركات المقاومة ضد الاحتلال في هذه الدوامة وتوجيه سهام الاتهام ضدها باعتبارها مصدراً وحيداً أو أساسياً للارهاب الدولي وعدم التسامح، في تفسير خاطئ وإغراضي لقيم التسامح ذاتها، لا سيّما المدوّنة في القواعد والقوانين الدولية، وفي مقدمتها الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
وكان جون لوك 11 قد نشر رسالته الشهيرة في العام 1689 ثم أصدر فولتير، وهو أبو التسامح بعد جون لوك، في العام 1763 كتاباً دعا فيه إلى أخلاقية التسامح، لاسيّما القائمة على التسامح الديني بين الشعوب والأمم المتعايشة في الغرب12. وقد فصلت ثلاثة قرون ونيّف بين رسالة لوك وبين صدور الاعلان العالمي للتسامح، أو "اعلان مبادئ التسامح" الذي صدر عن اليونسكو في العام 1995 13.
وبالرجوع إلى القرون الوسطى فقد شهدت أوروبا التي كانت تعيش ظلاماً فكرياً دامساً ظاهرة اللا تسامح، خصوصاً في ظل هيمنة رجال الدين " الإكليروس"14، ولا سيّما في الكنيسة وتحريم وتجريم ما عدى ذلك، من خلال توزيع الناس إلى فريقين: الأول المقدّس والثاني المدنّس، اللذان سادا في الحكم على البشر، واستمرّ الأمر حتى عهد التنوير الذي توّج بالثورة الفرنسية التي وضعت حدّاً للثنائية التي كانت سائدة، والتي تقوم على الكنيسة، كطرف أول تنحصر مرجعيتها بـ "الله"، مقابل قيام مجتمع علماني مرجعيته الواقع 15، وفي حين تستمد المرجعية الالهية مشروعيتها من الخالق، فإن المرجعية المدنية تستمد مرجعيتها من الناس ومن خياراتهم في العقد الاجتماعي وفي الحقوق والحريات16.
وإذا كان المخيال العربي شديد الارتباط حتى الآن بالحروب الصليبية (والأصح حروب الفرنجة) لأنها حروب غير دينية، وإن كان الدين من بين بعض أسبابها المباشرة أو غير المباشرة، إلاّ أنها قامت على المصالح والسعي لاحتلال الشرق العربي واستغلاله، كما هي الحروب الاستعمارية، بما فيها حروب اليوم، فإن المخيال الغربي هو الآخر يقوم على العدائية للعرب والمسلمين، لاسيما بمحاولة تهييج المزاج الشعبي، بما يعاكس الطبيعة البشرية أحياناً، باعتبار الإسلام يحضّ على الارهاب، وهو دين العنف وعدم التسامح.
وقد حصلت في الغرب قطيعة في القرن الثامن عشر، ما بين الدين (الكنيسة) والدولة، الأمر الذي أدّى إلى قيام وتعزيز الدولة المدنية، التي وضعت مسافة واحدة تقريباً بين الأديان والطوائف والانتماءات الإثنية والأصول السلالية واللغوية، وقد تعمّقت بالتدريج وعبر التراكم والتفاعل والتواصل والمشترك الانساني، وعلى أساس المواطنة المتساوية، لكن مجتمعاتنا العربية- الاسلامية، ظلّت في الكثير من جوانبها متداخلة بين الديني والسياسي، بل يندغم الواحد بالآخر أحياناً، وإلى درجة غير قليلة تتداخل في بعض الأحيان مهمات: الدين بمهمات الدولة، وهي مسألة من الصعوبة على الغرب أن يتفهمها، خصوصاً وأن الكثير من المجتمعات العربية والإسلامية، لاتزال لم تدخل مرحلة الحداثة، بل هي أحياناً لم تدخل مرحلة الدولة بمفهومها العصري، وتعيش حالة انتقال من طور إلى طور، في ظل كوابح وتحدّيات كثيرة تارة باسم الخصوصية، وأخرى باسم الدين والتراث، وثالثة باسم التقاليد والعادات وهكذا.
لقد حوّلت أوروبا الدين، ولا سيّما بعد عصر التنوير إلى مجرد تقليد ومحاكاة، وعلى الرغم من الاعتقاد السائد بأن الله يمثّل القوة الكاملة التي يُنسب إليها كل شيء، وإن الفرد والمجتمع بحاجة إلى التقرّب إليها، فإن الأمر تدريجياً، وفي ظل الحداثة اتخذ بُعداً جديداً، باضعاف دور الدين على حساب تقوية دور الدولة، التي حاولت التأثير في المؤسسات الدينية لتتساوق مع مؤسسة الدولة العليا، وهكذا جرت محاولات لتبهيت صورة الدين، تارة باعتباره استلاباً فكرياً حسب أوغست كونت، وأخرى بوصفه استلاباً انتروبولوجياً (إنسانياً) حسب فيورباخ الذي تأثر به ماركس، واعتبر فرويد الدين استلاباً نفسياً، ولعل العلاقة الملموسة بين الكنيسة البروتستانتية والدولة البروسية في ألمانيا في القرنين السابع والثامن عشر، هي التي كانت وراء أطروحة ماركس " الدين أفيون الشعوب" التي أخذها عن كانط، خصوصاً وأن ماركس تحدث عن وظيفة الدين وكيف يمكنه تعبئة نضال الناس من أجل حقوقها، ولم يتحدث عن الدين.
ومن جهة أخرى يفهم بعض العرب والمسلمين لا سيّما بعض الإسلاميين، أن أي حديث عن دولة مدنية، بمعنى فصل الدين عن الدولة، إنما هو محاولة من الغرب لفرض "العلمانية" التي تعني من وجهة نظرهم التصرّف ضد الدين أو اتخاذ موقف منه، حتى وإنْ كانت قلّة قليلة تدعو إلى مثل هذا الفصل الميكانيكي، الذي سيؤدي إلى التغريب، ظنًّا منهم أن دخول عالم الحداثة يحتاج إلى قطيعة ابستمولوجية بين الدين والدولة.
إن قيام دولة عصرية وفقاً للنظريات الدستورية المعاصرة وعلى أساس المساواة التامة والمواطنة الكاملة وحق الناس على اختيار الحكّام واستبدالهم، سيعني وضع الدين في مكانه المقدس الذي يستحقه، وليس استخدامه لأمور الدنيا كأداة للصراع والحصول على المكاسب، بما يؤدّي إلى المزيد من التباعد والتنافر والاحتراب أحياناً، والمشكلة ليست في الدين، بل في التديّن وفي التفسير والتأويل للقيم الدينية، واستدلّ على ذلك في نقد القرآن للتديّن الذي لم يكن وقفاً على وثنيّاته فحسب، وإنما واجه به وبقسوة كل تديّن كاذب ومنافق في سلوك أتباع الأديان التوحيدية دون استثناء 17.
حين أقرّت أوروبا بعد معاناة غير قليلة التمايز ما بين الدين والدولة، فإنها دخلت بالتدريج وعن طريق التراكم في حالة التسامح، حين اعترفت بالحق في الحرّية الدينية وحماية القانون للحرّيات الأساسية للإنسان، التي تعمّقت تدريجياً، لاسيّما على المستوى الدولي بعيداً عن احتكار الحقيقة أو ادّعاء النطق بإسمها، وإذا كان هذا الأمر قد حُلَّ غربياً، فإنه لا يزال عربياً وإسلامياً بعيداً عن الحلّ، بل أن خطورته تزداد باتّساع عمق الهوّة إزاء الآخر، في ظل التعصّب والتطرّف والغلو، وعلى الصعيد اليهودي، فإن ضيق الأفق والتوجّه العنصري دفعا أوساط واسعة إلى تبنّي فكرة الدولة النقية، كما يطرح اليمين الإسرائيلي حالياً، وهذا يعني أن لا مكان للمسلمين أو المسيحيين أو الدروز العرب فيها.
لقد حاول الفقه الإسلامي ضمن سياقه التاريخي بحث المسألة بالنسبة لمنتسبي الديانات الأخرى في دار الإسلام بالتمييز الايجابي وإن كان "سلبياً"، وذلك عبر اصطلاح وتشريع فكرة الذميين وهم "رعايا" في الدولة الإسلامية (اليهود والمسيحيون) وهو ما يطلق عليه محمد أركون "تسامح اللامبالاة" وأسمّيه أنا "التسامح السلبي"، خصوصاً أن تلك النظرة كانت ولا تزال تنظر إلى الآخر مع موقع أعلى، وهكذا يكون اليهودي والمسيحي في موقع أدنى18، ولعلّ مرجعية تلك النظرة المتمايزة هو الفكرة النيتشوية للتسامح التي هي أقرب إلى " العفو" أو "الصفح" سواءً من جانب الأقوى، أو من جانب الأضعف لما حصل له من ارتكاب أو هدر للحقوق، وفي كلا الحالين فإنه يحمل في طياته الإزدراء أو الإهانة.
لقد خطت أوروبا خطوات متقدمة بشأن فصل الكنيسة عن الدولة، أما الدولة العربية والإسلامية المعاصرة، فلا تزال "الشريعة الإسلامية" تشكّل محور وصيرورة وجودها في الغالبية الساحقة من الدول، ولعلّ فكرة القطيعة التاريخية التي سبق لأركون أن تناولها، لا تزال بعيدة المنال عنها، وقد لا تبدو قريبة في المنظور الحالي، وربما لسنوات غير قليلة، بما فيها الدول التي أحدثت تطوراً في النظر إلى الفكرة الدينية في دولة اعتمدت الإسلام مرجعية لها، كما هي تركيا المترنّحة بين الإسلام والعلمانية.
فقد ظلّ الطابع الغالب في القوانين والتشريعات في الأكثرية الساحقة من الدول الإسلامية يعتمد على الإسلام الذي يعتبر " دين الدولة"، وفي بعضها "مصدراً أساسياً" أو "المصدر الأساسي للتشريع"، بل وأكثر من ذلك حين يعتبر الكتاب المقدس "القرآن " هو الدستور، وقد جرت نقاشات واحتدامات ساخنة حول هذا الموضوع وغيره من المواضيع، بخصوص علاقة الدين بالدولة وموقع الشريعة الإسلامية، وذلك بعد موجة التغييرات التي شهدتها العديد من البلدان العربية، لا سيّما في تونس ومصر وليبيا واليمن، وقبل ذلك كان الجدل قائماً بخصوص وجهة الدولة في العراق بعد الاحتلال العام 2003، خصوصاً ما احتواه الدستور من ألغام كثيرة ليس بعيداً عنها موضوع الدين وتأويلاته وتفسيراته، وهو الأمر الذي يثار حالياً في دول ما يسمى بالربيع العربي بعد العام 2011.
وعلى الرغم من أن الدولة لكي تؤمن قاعدة التسامح فينبغي لها أن تكون محايدة، أو لا يكون لها دين محدّد، فالدين هو أحد أركان هوّية الفرد، ومثلما الإسلام ركن أساس من هوّية المسلمين، فالمسيحية هي كذلك ركن من أركان هوّية المسيحيين وهكذا، فالأمر الذي يحتاج إلى فكّ اشتباك دون خلط أو إكراه بين عقيدة الأفراد ووظيفة الدولة في حماية العقائد والحقوق. وقد طرح هذا الأمر على نطاق واسع ما بعد التغييرات التي حصلت في العالم العربي خصوصاً علاقة الدين بالدولة فضلاً عن فكرة الديمقراطية والفرق بين المشروعية والشرعية، وبين "الشرعية الثورية" و"الشرعية الدستورية"، وعلاقة ذلك بحقوق الإنسان وحكم القانون واستقلال القضاء، وتداولية السلطة سلمياً ومبدأ المشاركة والمساواة والحريات العامة والخاصة.19
وعندما انتقلت أوروبا إلى مرحلة الفصل بين الدين والدولة وبين الدين والسياسة، ظلّت المنطقة العربية تعيش حالة وصل بل هيام أحياناً ارتفعت حرارتها في السنوات الثلاثين ونيّف الماضية، ولا سيما بعد الثورة الإيرانية العام 1979، وأصبح هناك نوعاً من الاندغام حدّ التماهي، بشكل غير اعتيادي بين الدين والدولة، وبين السلطة الزمنية والسلطة الدينية، وأحياناً بين مذهب لطائفة معينة وبين الدولة، وهو انقسام زاد من انقسام العالم العربي إلى قبائل وعشائر ومناطقيات، لكن الدين والطائفة أكثر ظلا عاملين أساسيين في التجمعات القائمة لمرحلة ما قبل الدولة أو في ارهاصاتها الأولى. ولعل المقصود من هذه المقارنة لا تزكية للغرب أو إنساب الفضائل له، وتجيير الرذائل لدمغ مجتمعاتنا، بل هو البحث عن جوهر فكرة التسامح، دون نسيان مسؤولية الغرب فيما وصلت إليه مجتمعاتنا، سواءً محاولاته استعمار واستغلال البلدان العربية وتمزيقها أو من خلال تعطيل التنمية والإصلاح والديمقراطية، لا سيما بدعم إسرائيل وعدوانها المتكرر على الشعوب العربية، إضافة إلى نهب الموارد والأموال العربية، خصوصاً عبر صفقات التسلح بزعم الخطر الخارجي.
لقد حقّقت أوروبا والغرب عموماً، ولاسيما بعد الثورة الفرنسية، العام 1789 تطوّراً كبيراً في قضايا الحرّيات والمساواة وحقوق الانسان، وهو ما كان قد مهّد له كتابات فولتير ولاسيما حول "التسامح" 20 وكتابات مونتسكيو، وخصوصاً كتاب "روح الشرائع" 21 وكتابات جان جاك روسو وبالتحديد كتابه " نظرية العقد الاجتماعي" 22، وذلك بتهيئة بيئة ثقافية للثورة، وحتى بعد مرور أكثر من مئتي عام، فإن عالمنا العربي والإسلامي، لا يزال يقف في الكثير من مجتمعاته في مرحلة ما قبل الدولة وعند بوابات الحداثة التي تم ولوجها من جانب أوروبا، والانخراط فيها على نحو عميق، الأمر الذي يحتاج إلى تأكيد مسألتين أساسيتين: المسألة الأولى أن ما نطلق عليه مصطلح الدولة لا يزال هشًّا وضعيفاً ويعاني في الكثير من الأحيان من نكوص كبير، فضلاً استمرار التأثيرات السلبية للحقب الاستعمارية، ولم تتوفر بعد إرادة سياسية جماعية على مستوى الكيانية القائمة للاعتراف بقيم ومبادئ التسامح ونشرها وتأكيد احترامها والالتزام بها.
ولعلّ مسألة الدولة تطرح موضوع الشرعية، لاسيما علاقة الحاكم بالمحكوم، تلك التي تحتاج إلى مرجعية محددة وواضحة ما فوق دستورية أحياناً، مع إدراج مبادئها الأساسية في الدستور، وهذه المرجعية تجسّد القيم الإنسانية المشتركة. الشرعية Legitimacy التي تشكل موضوعاً رئيساً من مواضيع علم السياسة والنظام السياسي على وجه الخصوص، وذلك لارتباطه بمسألة كيفية وطريقة ممارسة السلطة السياسية في المجتمع، وبالتالي العلاقة بين الحكام والمحكومين .
وقد اختلف مضمون الشرعية وأدواتها وأهدافها، ففي فترة الحرب الباردة والصراع الآيديولوجي وفي ظل نظام القطبية الثنائية ساد مفهوم "الشرعية الثورية"، حتى وإنْ كان هذا الاستخدام له ما يبرره في مرحلة الإنتقال، لكن هذه "الشرعية الثورية" استمرّت لعقود من الزمان، وعلى نحو متعسّف، بحيث فقدت الشرعية المزعومة أي معنى وتحوّلت إلى إستبداد وإستئثار ومصادرة للحقوق والحريات.
والمسألة الثانية أن الثقافة العامة والفردية لا تزال متدنّية، بل غائبة في الكثير من الأحيان عن المجتمعات على المستوى العام والفردي، الأمر الذي تتشبث فيه الكثير من الجماعات بالتعصّب والتطرف والنظرة السلبية إزاء الآخر.
ولعلّ مثل هذه الثقافة غير المتسامحة لا تزال سائدة مجتمعياً، بل تمثل الفضاء الثقافي العام في ظلّ عادات وتقاليد تكاد تكون راسخة، بحيث لا يتم التعامل على قدر المساواة القانونية والاجتماعية مع مكوّنات خاصة بالتنوّع الثقافي والتعدّدية القومية أو الدينية أو بالانتقاص منها بالتمييز وعدم المساواة، وإذا كان هذا الأمر ظاهرة عربية وإسلامية بامتياز، فإن الغرب ليس بريئاً منه، فالنظرة الإستئصالية الإلغائية تسود لديه أيضاً في ظل أجواء التطرّف والتعصّب، وفي إطار اعتقاد خاطئ، وذلك حين يتم اختزال الثقافة العربية الاسلامية إلى دين والى تعاليم محددة أو ممارسات لبعض من ينتمي إلى هذا الدين في حين، أنها هوية لحضارة ممتدّة ومتّصلة، بغضّ النظر عن القومية واللغة والجنس واللون والأصل الاجتماعي والاتجاه السياسي.
وعلينا الاعتراف أن الفرق واسع والمسافة شاسعة بيننا وبين الغرب وهو وإنْ كانت نظرته استعلائية وفوقية إزاء " الآخر" ولا سيّما شعوب وأمم العالم الثالث، الاّ أنه على صعيد الداخل والمواطنة وحقوق الإنسان، فإن لديه قوانين وأنظمة ومؤسسات تستند إلى قيم التسامح التي ترتقي بها إلى مصاف قواعد قانونية واجتماعية وسلوكية وأخلاقية، حتى وإن وجدت بعض الممارسات من بعض الاتجاهات المتعصّبة والمتطرّفة ذات النزعات العنصرية والفاشية، في حين أننا لا نزال حتى الآن بعيدين عن قيم التسامح ومبادئه 23.
واستناداً إلى بعض الاتجاهات المتطرفة في الغرب ذاته صاغ صموئيل هنتنغتون فكرته حول "صدام الحضارات" وذلك انطلاقاً من قراءة مخطوءة للعلاقات بين الدول والشعوب بقوله: إن غياب العدو الشيوعي لا يعني زوال التهديد بالنسبة للولايات المتحدة والغرب ولكي تحتفظ واشنطن بزعامة العالم وجب عليها البقاء على أهبة الاستعداد كقوة ضاربة للدفاع عن حضارة الغرب، ... لأن الصراع هو " صدام حضارات وليس نهاية التاريخ فحسب" والمشكلة فكرية ثقافية، مع الحضارات الأخرى، لا سيما مع الإسلام والحضارة العربية- الإسلامية، خصوصاً وإن الإسلام قادر على التعبئة من الغرب إلى الباكستان، حيث تدمغ الحضارة العربية- الإسلامية بقضها وقضيضها بالتطرف والظلامية والأصولية.
وقبل هنتنغتون كان فرانسيس فوكوياما قد توجه إلى الحديث عن نهاية التاريخ، End of History واضعاً الصراع على المستوى العالمي بين الأمم الما قبل تاريخية وبين العالم المتحضر " الما بعد تاريخي" عالم الصناعة والتقدم، حيث فازت الليبرالية على المستوى السياسي والاقتصادي، بانهيار أوروبا الشرقية وأنظمتها الاشتراكية. ويعتقد فوكوياما إن عالم ما بعد التاريخ هو الذي يحقق العدالة والإنسانية بفضل قوته الصناعية وتقدّمه، وما على الآخرين الاّ الانصياع والتسليم.24
للأسف الشديد لا يزال المسلمون، لاسيما المؤدلجون أو الإسلامويون أو المتأسملون غير متصالحين مع تاريخهم الايجابي منه أو السلبي، فهو يريدونه كما يروق لهم اليوم، ولا سيّما بعض رجال الدين، بما يعني توظيفه لمصالحهم الآنية، التي في الغالب هي مصالح اقصائية وتسلّطية، وخصوصاً عدم الاعتراف بالآخر، فما هو إيجابي من فقه التسامح وقيم الإسلام السمحاء يتم أحياناً غضّ النظر عنها، وهو الجانب المشرّف من التاريخ الإسلامي المنسجم مع روح القرآن والسنّة النبوية، لا سيّما القيم ذات البعد الشمولي الكوني، متجاوزة على زمانها ومكانها 25.
ويتم التشبّث أحياناً بعكسها، بما عفا عليه الزمن، بحجج واهية لا تخدم التعايش والتعاون والمشترك الإنساني بين بني البشر وإنْ كان بعضها ضمن سياق تاريخي فإن عهده قد انتهى، وهو ما تحاول بعض الاتجاهات في الغرب نعت الإسلام وإتهامه كلّه بالتعصّب والغلو، بسبب تفسيرات خاطئة وبعيدة عن روح التسامح.
إن التصالح مع التاريخ سيقود إلى تصالح مع الحاضر، سواءً جغرافياً أو دينياً أو قيمياً، وهو يقتضي المصالحة مع النفس، ومع الآخر الذي نعيش وإيّاه في وطن واحد أو على كوكب واحد، سواءً كان مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً أو غير ذلك، مؤمناً أو غير مؤمن، المهم أن يكون إنساناً يستطيع أن يعيش معنا في إطار مجتمع واحد أو عالم واحد، بغض النظر عن الدين أو اللون أو الجنس أو العرق أو اللغة أو الأصل الاجتماعي أو الاتجاه السياسي، كما تذهب إلى ذلك الشرعة الدولية لحقوق الانسان وعدد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، باعتبارها مرجعيات للتسامح.
التصالح مع النفس يقتضي الحوار مع الآخر والتواصل معه من خلال التبادل والتفاعل الإنساني، على أساس المشترك، الجامع، الموحد، المختلف، والمؤتلف في الآن ذاته.
حقيقة التسامح
مقاربة للسؤال المركزي الذي ظلّ يدور في كتاب الدكتورة فاتن الخفاجي: إذا كانت الحاجة للتسامح ضرورية، فالسؤال المنطقي الذي يتفرّع عن السؤال الأول هو: كيف السبيل لبناء وترسيخ ثقافة التسامح في ظل ما آلت إليه أوضاعنا من عنف وإرهاب، لا سيما بانتشار التعصّب والتطرّف، بعد احتلال العراق في العام 2003؟ ولعلّ الأمر يتطلب توفّر ظروفاً موضوعية وهذه تحتاج إلى :
أولاً- بيئة سلمية ولا عنفية مناسبة ينمو فيها ويترعرع ويزدهر الاعتراف بالآخر وحقه في العيش بسلام ودون خوف وضمان حقوقه كاملة على أساس المساواة والمشترك الإنساني. وهذه البيئة تتطلب رافعات أساسية للتسامح أهمها:
1- وجود قوانين وأنظمة (تشريعية) تعتمد مبادئ المواطنة الكاملة والمساواة التامة والحق في الاختلاف وإقرار التنوّع والتعددية، وضمان العدل وعدم التحيّز في التشريعات وفي إنفاذ القوانين والإجراءات القضائية والإدراية، ذلك أن عدم وجود قوانين وأنظمة راعية للتسامح ورادعة لمن يخالف قواعده، سواء إزاء الأديان أو القوميات أو الثقافات سيؤدي إلى تفقيس بيض اللاتسامح، الأمر الذي سيقود إلى التوتر والعنف والارهاب، خصوصاً بوضع إلغاء وإقصاء الآخر هدفاً.
2- قضاء مستقل ونزيه لتطبيق القانون وحماية الحقوق والحريات. ولعلّ البيئة القضائية السلمية ستلعب دوراً إيجابياً في الإقرار بحق الاختلاف والمساواة وإحقاق الحقوق.
3- مناهج تربوية وتعليمية تقوم على المساواة وعدم التمييز، باعتبار التعليم والتربية من أنجع الوسائل لمنع اللاتسامح، ولعل الخطوة الأولى على هذه الطريق هي تعليم الناس حقوقهم وحرياتهم التي يتشاركون فيها وتأكيد عزمهم على حمايتها.26
4- إن غياب مبادئ التسامح عن المناهج والأساليب التربوية والتعليمية، خصوصاً باستمرار النظرة القاصرة إلى الآخر والمشفوعة بتبرير الممارسات التمييزية والاستعلائية، تخلق ردود فعل حادة وتقود إلى تشجيع عوامل الاحتراب وخصوصاً في ظل الشعور بالاستلاب، لا سيما من جانب التكوينات المستضعفة والمهضومة الحقوق.
5- بيئة إعلامية تتيح حرّية التعبير ونشر قيم التسامح والتعايش وعدم التمييز. فالاعلام سلاح ذو حدّين، فبإمكانه أن يكون عاملاً مساعداً في نشر قيم التسامح ومبادئه أو الترويج بضدها، بما يغذي عوامل الكراهية والأحقاد وتبرير العنف والارهاب.
6- بيئة اجتماعية ومجتمعية من خلال منظمات مستقلة للمجتمع المدني تسهم في تعزيز التعايش والمشترك الإنساني وتقوم برصد ورقابة الممارسات غير المتسامحة حكومياً ومجتمعياً، وتكون شريكاً برسم السياسات العامة.
وثانياً- فهم مشترك لفكرة التسامح، وهذا يقوم على تنزيه مبادئ التسامح عن الفكرة الساذجة حول تعارضها مع مبادئ "العدالة"، وتصويرها وكأنها تعني غضّ الطرف عن الإرتكابات والإنتهاكات لحقوق الإنسان، مثل ممارسة التعذيب أو الإغتصاب أو القتل الجماعي، أو غير ذلك من الجرائم التي لا تسقط بالتقادم، سواءً ما يتعلق بالنظام السابق أو الارتكابات اللاحقة ما بعد الاحتلال. ولا بدّ من توضيح الفارق المتناقض بين مبادئ التسامح وفكرة المساومة أو التنازل أو التساهل، ولا يجوز بأي حال التذرّع بالتسامح لتبرير المساس بقيم حقوق الإنسان وحرّياته الأساسية.
كما من الضروري تفريق فكرة التسامح عن الفكرة الدارجة حول "العفو" أو "تناسي" أو "نسيان" ما حدث من ارتكابات أو عدم المساءلة، فذلك لا يجمعه جامع مع فكرة التسامح التي نقصدها والتي حاولنا عرضها تساوقاً مع مرحلة إعلان التسامح، ولعل جوهر مبادئ التسامح ومضمونه يعني حق كل فرد أو مجموعة التمسّك بحقوقها وعدم التنازل عنها، وهذه الفكرة هي نقيض فكرة وجود طرف قوي وآخر ضعيف، وأن الأول أو الثاني "يتسامح" مع الآخر، انطلاقاً من فكرة مثالية، بل أن العكس هو الصحيح، لا سيّما التمسّك بالحقوق وبالعيش المشترك، وأظنّ أن مثل هذا الفهم النيتشوي هو الذي يدعو بعض المثقفين إلى معارضة فكرة التسامح والنظر إليها بازدراء واستخفاف.
لهذه الأسباب تكتسب فكرة التسامح أهميتها وراهنيتها في العراق بشكل خاص حيث يسود العنف والارهاب، وتتصارع فيه قوى يريد كل منها فرض هيمنته على الآخر، كما تكتسب أهميتها وراهنيتها، لأن مجتمعنا العراقي عانى من اللاتسامح على صعيد علاقاتها الداخلية والدولية، من خلال الاستبداد والعدوان والحصار والاحتلال والطائفية والارهاب والتهميش، ولا يزال يعاني على مستوى الداخل من العنف والارهاب والتعصّب والتطرف والغلو.
كما أن فكرة التسامح ضرورية لترميم الحياة السياسية بعيداً عن الكيدية والانتقامية وردّ الفعل والعنف والثأر إزاء الآخر، وهو الأمر الذي يطرح موضوع المصالحة الوطنية الحقيقية بكل أبعادها على أساس مبادئ التسامح واستناداً إلى العدالة الانتقالية وتساوقاً مع قيم حقوق الإنسان، وذلك بتحديد المسؤوليات وكشف الحقيقة كاملة وجبر الضرر وتعويض الضحايا، والمهم إصلاح النظام القانوني والقضائي والأمني، وتوفير بيئة مشجّعة على ذلك.
وتحتاج المسألة إلى بثّ ثقافة التسامح وتعميمها، خصوصاً وأن مجتمعنا عانى من العنف واللاتسامح في الماضي والحاضر، وهذا ترك آثاره السلبية وجروحه العميقة، ولعل الهدف الأسمى هو تجاوز كل ذلك لآفاق مستقبلية، أساسها حرية الإنسان وسعادته، فالإنسان هو الأصل على حد تعبير الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس.
كما أن مجتمعنا بحاجة إلى التخلص من التركة الثقيلة لنزاعات داخلية حادة بين قوى وتيارات وطوائف وأديان، لا تزال تفعل فعلها من خلال أمراء اللاتسامح، الذين يعيشون ويتغذّون على أجوائه.
ثالثاً- الاعتراف بحقوق الغير ومعاناة الفئات المستضعفة، وهذا يعني إنصاف الأفراد والجماعات التي تعرّضت حقوقها للانتهاك، وذلك بعيداً عن الاعتبارات المصلحية والنفعية السياسية والشخصية، من خلال الإقرار بمعاناة فئات وشعوب وأمم وأديان وطوائف وجماعات مستضعفة، تعرّضت بسبب اللاتسامح وهضم الحقوق إلى مآسي كبيرة، لحقت بها جرّاء حروب وأعمال إبادة وقمع واستباحات باسم القومية، أحياناً أو باسم الدين، أو باسم الطائفة أو المذهب أو مصالح الكادحين أو غير ذلك من المزاعم الآيديولوجية، وإذا كان ذلك على المستوى الداخلي، فإن معاناة العراق من الحصار والاستباحات الخارجية والاحتلال على المستوى الخارجي، كانت سبباً في الكثير من الويلات والمآسي التي حلّت بالعراق وشعبه والتي أدّت إلى تعطيل التنمية والتقدم .
وإذا كنت قد أشرت إلى غياب أو ضعف ثقافة التسامح لدى الجميع، فإن هذا الضعف استمر، حيث بقيت الاستجابة الرسمية وغير الرسمية منكمشة وحذرة، وإن كان هناك بعض المبادرات المحدودة، حيث صدرت بضعة كتب ومطبوعات، وتأسست منظمات وشبكات لهذا الغرض، لكنها لا تزال