صراع من أجل البقاء أم من أجل الفناء
المونسنيور د. بيوس قاشا
في البدء...
أسباب عديدة دفعت المسيحيين للهجرة من بلدان الشرق الأوسط وبالخصوص من بلادنا ، بسبب ما حلّ بنا من قتل وتهجير، وتراجع الظروف الاقتصادية والأمنية والاجتماعية، وصعود التيارات المتطرفة، والاضطهاد الديني الذي مارسته بعض الجماعات التكفيرية وأحياناً كثيرة بسبب معاداة الأقليات وفقدان مناخ وغياب رسالة التسامح الديني والتعددية والإختلاف، وهذا مؤشر أكيد لتلاشي الوجود المسيحي في المنطقة بعدما كانوا أعداداً وجماعات يفتخرون بوجودهم في بلدانهم، وتفتخر المنطقة بعطائهم وعقولهم.
صراع وبقاء
ما يجب أن ندرك جيداً، اليوم وليس غداً، نحن أمام وضع مأسوي، فالواقع تُمَرَّر مصالحه ومخططاته بين ظهرانينا، وما أشاهده فنحن لسنا إلا من المتفرجين والناطرين قسمتنا دون إرادتنا وإن كانت ليالينا لا ترزقنا خبزتها، فالمنطقة في غليان وفي صراع المصالح والعقول، كما المحسوبيات والوجبات، وكل يريد أن يحصد غلاّت غيره، حقيقة أو زيفاً، يسلبون ما لهم وما ليس لهم بعد أن أصبح الفساد سيرة مقدسة ومسيرة مستدامة. فعراقنا يقود اليوم صراعاً طائفياً لا شريك له، ومذهبياً لا ينافسه قول، وإقليمياً لا تحسده الأوطان. إنه صراع من أجل البقاء، صراع النفوط والمصالح والسياسات المدمِّرة في قانون اسمه "شريعة الأنا"، فحيث الجثة، يقول الإنجيل المقدس، هناك تجتمع النسور (لو37:17). فالإرهاب المزيف بأشكاله المختلفة وبأدبياته الفاسدة ينهشنا من حيث لا ندري، والزمرة المزيفة تصفق لهذه المسيرة من أجل مصالحها ومراكزها ومناصبها غير مبالين بالحقيقة والحياة، بالوطن والإنسان، بهبات الله ونِعَم السماء. فهم المخطِّطون وهم المنفِّذون وهم المكفِّرون، وهم في كل ذلك هيرودس الشرير الذي خلط دماء الجليليين بذبائحهم (لو1:13)، وما أكثرهم للحق كارهون (وفي هذا يفسدون ضمائرهم) في الحياة... إنها سلسلة متصلة من الضيق والغضب والضغط والانفعال، وأخيراً الموت.ما هذا الذي يحصل إنه سؤال بلا جواب ، ليس إلا .
آيات عجاب
أبناء شعبنا لا زالوا يطرقون أبواب الهجرة والرحيل، والكنيسة ورؤساؤها يضعونهم أمام حريتهم في إختياراتهم، والسبب أنهم لا زالوا في شكٍّ من وجودهم كما هم في حالة يأس من مستقبلهم، يصبحون وينامون تعساء وبؤساء على مصيرهم ومصير صغارهم. إنني أتعجب لكبار يقولون أنهم قادة الزمان ، يملأون بطونهم بوعود كاذبة، ، فيقررون ما يحلو لهم وإن كان ذلك بغيضاً في حقيقة أعينهم ولكنه محبوباً في أفكار عقولهم ومسيرة سلطتهم، فهم ينزّهون أنفسهم من كل دنس وكأنهم أُنزلوا من السماء كآيات عجاب، ويُصدرون فتاوى انتظار بالبقاء في أوطانهم وهم يذهبون ويجيئون كأسياد مسلَّطين بمالٍ ليس لهم ويولولون قائلين "من أجلكم نُمات كل يوم وقد حُسبنا مثل غنم للذبح" (مز 22:44) ويزيدون في شكواهم إننا من اجلكم نعمل ونذهب ونجيء" فقد تعبنا الليل كله" ( لوقا 5:5) والحقيقة إنهم يستهزأون بشعبهم والله بعيد عن مآربهم وعن عقولهم فهم آلهة لانفسهم ليس إلا.
خوف وضعف
نحن المسيحيين نتخبط اليوم أمام مآسي عديدة لم يكن لنا فيها لا ناقة ولا جمل، وإنما قادونا مثل الخراف خضوعاً وخنوعاً، ولا زالت المسيرة مستمرة هنا في وطننا وفي أنحاء عديدة من شرقنا المعذَّب وأنحاء أخرى من هذا العالم البائس حيث الظلم والألم واليأس والمستقبل المجهول لنا ولأجيالنا ولأحفادنا، ولا نعلم أين صوب مسيرتنا وإلى اين نحن نتجه أمام صراع لم نكن فيه مستعدين. وأمام ما يحصل يجعلنا أن نحمل أفكاراً ملؤها الخوف والجُبن والضعف والتعاسة بسبب انتشار الشرّ وانعكاساته على الأصعدة الإجتماعية والسياسية والعائلية والطائفية في فوضى عارمة وشغب وحروب تكفيرية وديموغرافية، وظلم وقمع الآخر البرئ في تدمير الإنسان الآخر المختلف، وكما يقال "يدنا على قلبنا"، وبالتعبير الشعبي "إيدنا على قلبنا" ممّا سيحلّ بالمسكونة وبالمسيحية، فالكثير منا يعيش بلا هدف واضح، يرقص مع الأغنية ويولول مع العدّادين، ولا يعلم ماذا يصنع وأين محلّه من الإعراب في مجال وجوده وحقيقة ترابه. إنه صراع نفسي، فإذا سألتَه: لماذا ترقص أو تولول؟، يجيبك: هذه هي الحياة. وإن كان الهدف الوجودي قد ضاع فحتى متى سنبقى من المهمَّشين؟، وحتى ما ينتهي الصراع؟ هل هو صراع من أجل البقاء أم صراع من أجل الفناء... ليس إلا!.
نؤمن ونعلم
يراهن الكثيرون اليوم على ترحالنا أو على تقلّص أعدادنا بصورة كبيرة، ولكننا نؤمن أن الله سيد التاريخ وهو يرعانا ويرعى كنيسته في الشرق. إننا نؤمن بيسوع المسيح القائم من الموت والمنتصر على كل شرّ. وبناءً على إيماننا هذا نقول "سوف يبقى في الشرق مسيحيون يحملون إنجيل ربنا يسوع المسيح، ويشهدون لقيامته المجيدة، ولو بقينا عدداً قليلاً"، وقد سبق وأنبأنا "ستعانون الشدة في العالم، ولكن ثقوا إني قد غلبتُ العالم. فلا تضطرب قلوبكم ولا تفزع" (يو33:16 و27:14). نؤمن ونعلم أن الإيمان صعب، بينما تغشانا ظلمات هذا العالم ومظالمه. نرى شقاء الأرض، نرى قسوة الناس بعضهم على بعض وعلينا، نعيش في زمن استشهاد وننظر إلى صلاح الله ونسأله تعالى القوة لقبول نعمته، نسأله أن يرافقنا سواء حضرت ساعة شهادة الدم أم بقينا في بيوتنا وكنائسنا المهدَّمة أم تشتّتنا في أنحاء العالم، نسأله القوة لنبقى مؤمنين به وبصلاحه، ومع الموت الذي نتعرض له نؤمن أن الله ما زال يرسلنا في بلداننا أو في العالم وفينا صلاح من صلاحه وقوة من قوته ومحبة من محبته ليس إلا .
الخاتمة
نعم ، إننا اليوم أمام أسئلة لا أحد يجيب عنها، وإنْ أجابوا عنها فما جوابهم إلا كلام ليس إلا، فلا رجاء فيه ولا أمل لتحقيقه. فقد طال الزمان، ومالت السنون إلى النسيان، وغابت الشمس عن كشف حقيقة وجودنا وقضيتنا... وعود ووعود ووعود. فالأغنياء إلى أوطانهم الجديدة رحلوا، فهم لا يحتاجون إلى درهم أو أخضر، هاجروا وتركوا أصالة بلدانهم. والفقراء ركبوا المراكب القاتلة والمهرِّبة بسبب دخلهم المحدود ينتظرون ساعة رحيلهم، فلا عون لهم، لا من رؤسائهم ولا من كبار دنياهم وزمانهم. فرؤساؤهم لم يرحّلوهم لأنهم ليسوا روّادهم وكبار دنياهم وأبناء عشيرتهم ، يتركونهم إعلاماً لمصالحهم، وكبار زمانهم يقولون عنهم إنهم عادوا والحقيقة مؤلمة وإن قلناها، فحتى متى!!!. هل يبقون ينتظرون ما يقع من فتات الغني (متى27:15) ليشبعوا ويملأوا بطونهم، فهم ليسوا من أقرباء الكبار ولا من حشم الموائد بل هم فقراء الرحمن ومعوَّقو البابا فرنسيس... إنهم الأغلبية المهمَلَة. فصراعنا هو من أجل الحفاظ على الوجود المسيحي كمكوِّن أساسي في نسيجنا الإجتماعي، ولا نكن من الخاسرين في هذا الصراع من أجل البقاء كما خسر الوطنُ المكوَّنَ الموسوي، لأن التنوع ما هو إلا مدعاة فخر وسمو، إنه تاريخ التسامح والعيش المشترك. ويبقى السؤال إذا ما خسرنا في صراعنا هذا سنكون في خطيئة لا غفران لها، إنها خطيئة التلاشي، إنه صراع مميت ، وخيارنا واحد فهو إما بقاء أو فناء ، ليس إلا!.