رحل العروبي "الأبيض"
على نحو مفاجئ غاب عبدالله عمران تريم، الإعلامي البارز والمتميّز، هكذا غادرنا بلا مكتوب أو هاتف أو كلمة وداع عبر البريد الإلكتروني، ومثلما عاش هادئاً ومسالماً، فلقد اختفى مثل الضوء بلا صخب، كأنه أراد أن يذكّرنا بأن الحياة بما فيها من ضجيج وصراع وألم، إنما "رحلة ساعة"، فانسحب إلى ركنه الأبدي، هادئاً مطمئناً .
أربع قضايا امتاز بها الراحل: أولاها حبّه لدرجة العشق والوله للكلمة الحرّة والجملة الرشيقة والخبر الصادق، فقد كان يدرك أن وظيفة صاحبة الجلالة "السلطة الرابعة" تقتضي الوعي والمسؤولية ونقل الحقيقة، فالصحفي هو مؤرخ اللحظة حسب ألبير كامو، ولهذا سعى بما توفّر لديه من مواهب وإمكانات لأن يجعل الوسيلة الإعلامية تخدم الحقيقة، وهي الهدف الأسمى .
وثانيتها ربطه المُحكم بين الغاية والوسيلة، فلم يكن يختار الاّ الوسيلة الشريفة لتحقيق غايته النبيلة، مثلما كان غاندي يجمع الغاية بالوسيلة، التي لا يمكن أن تفترق عنها، فالبذرة من الشجرة والشجرة من البذرة، ولا يمكن الانفصال بينهما .
وثالثتها أنه جمع على على نحو ديناميكي بين الشكل والمضمون، وبين الحرف الأبيض الأنيق والكلمة النظيفة، وبين المعاني والدلالات التي يريدها، مؤاخياً على نحو عميق وعفوي ما بين الفعل ونتائجه .
فلم يكن عبدالله عمران عاشقاً للخبر الصحفي فحسب، بل هو عاشق للمفاجأة والحدث، معتبراً أن لكل حدث سبباً ونتيجة، وهكذا كان منهجه في التعامل مع القضايا الكبرى وكذلك مع التفاصيل، التي من دونها لا يمكن رؤية الصورة كاملة .
ورابعتها حبه للحياة، فشخصية عبدالله عمران كانت أميل إلى التواصل والتفاعل والاتصال، وكان يرى في مساحة وطنه العربي موطناً أساسياً له، من لبنان إلى المغرب ومن الشارقة إلى مصر ومن العراق إلى السودان، فقد كان يعدّ الحياة ويشتهيها .
ترك لنا عبدالله عمران تراثاً ونهجاً تتمثله اليوم صحيفة ورعيلاً من الصحفيين الذين يسعون وراء هذه الحقيقة، ويتوسمون المهنية، كأسلوب يتناسب مع ما وصلت إليه الصحافة العالمية المتطورة، فقد سعى المؤسسان الراحلان تريم عمران ود .عبدالله عمران، إلى استشراف تلك المهنية والعقلانية عبر حوار حقيقي لا يخص دولة الإمارات فحسب، بل كان يمتد إلى الوطن العربي برمته، ولعلّ تلك النظرة العروبية الجامعة هي التي كانت وراء عدم دخول صحيفة "الخليج" طوال حياتها ووجودها، كطرف في أي نزاع عربي، بل كان همّها هو قضية العرب المركزية فلسطين، بما تحمله من دلالات للتحرر والتنمية، ناهيكم عن امتداداتها العربية .
إن خسارة الأمة العربية برحيل عبدالله عمران تكاد تكون مضاعفة في زمن التفتت العربي، لغياب صوت موحد وجامع، وإعلامي مهني راق، وعقلاني رفيع المستوى، إضافة إلى أنها بأشد الحاجة اليوم إلى قلم وصحيفة تنتمي لوجدانها، وهو ما كنت ألمسه عند معالجتي منذ عقد من الزمان لقضايا العراق بالذات، حيث كان يطلب مني كتابة القسم المستقل الخاص به، ليدرجه في التقرير الاستراتيجي السنوي .
لم أشأ أن أكتب مرثية إلى الراحل، بل قصدت كتابة رسالة وداعية أخيرة، لأقول له اشتياقاً، فقد كان حلمه بالعدالة والحقيقة والسلام كبيراً، وبالثقة بالمستقبل، على الرغم من أن الكثير مما حولنا لا يشي بذلك، وأعتقد أن البذرة الطيبة لا تنبت إلاّ نبتاً صالحاً، فصحيفة "الخليج"، ومؤسسة الخليج لاحقاً، والتي ابتدأت منذ العام 1970 وتواصلت بعد العام 1980 ولحد الآن، هي الوجه الأنصع ل"الخليج" الذي نراه بوابة عربية للمشاركة في الحضارة البشرية والمشترك الإنساني .
صحيفة الخليج الاماراتية ، السبت 1/2/2014