دستور تونس والعقدة الدينية
صوّت 200 نائب بالموافقة على دستور تونس الجديد من مجموع 217 نائباً، وهذا الدستور هو الثاني منذ "ثورة الياسمين" التي كانت شرارتها الأولى قد جاءت من سيدي بوزيد، حينما أحرق محمد بوعزيزي نفسه، والتي انتصرت في 14 يناير/كانون الثاني 2011 واضطر الرئيس السابق زين العابدين بن علي إلى مغادرة البلاد .
وكان تصويت المجلس التأسيسي على مشروع الدستور الجديد قد ترافق مع إعلان رئيس الوزراء الجديد مهدي جمعة عن تشكيل حكومة جديدة مستقلة خلفاً لحكومة علي العريّض، وهي الحكومة الثانية لحزب النهضة الإسلامي التي اضطرّت إلى الاستقالة، حيث ستضطلع الحكومة الجديدة بالتحضير لانتخابات جديدة (العام 2014) .
وعلى الرغم من الفوضى والعنف عقب موجة التغيير التي شهدها العالم العربي في السنوات الثلاث الماضية، إلاّ أن إقرار الدستور التونسي الجديد 26 يناير/كانون الثاني ،2014 وقبله الاستفتاء على الدستور المصري الجديد في 13-14 يناير/كانون الثاني ،2014 يعتبران تطوّرين مهمين على صعيد الانتقال الديمقراطي، من دون أن يعني ذلك انحسار التحدّيات الكثيرة التي واجهت التجربتين الفتيتين، سواءً من جانب بعض قوى الإسلام السياسي والجماعات السلفية المشاركة أو من طرف القوى التقليدية والمتضررة من التغيير، ففي كلا البلدين حاولت بعض القوى اختطاف ثمار التغيير ونتائجه لمصلحتها، أو أن بعضها سعى عندما لم يتمكّن من ذلك لحرفه عن مساره المدني وأهدافه المعلنة في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية .
كان من المقرر إنجاز المجلس التأسيسي مشروع الدستور العام ،2011 لكنه تأخّر بسبب خلافات سياسية حادة، ولكن القوى السياسية المختلفة توصّلت في نهاية المطاف وبعد حوارات جادة وعميقة وجهود مضنية وتنازلات متبادلة إلى إقرار صيغة اعتبرت قياساً لجميع الدساتير العربية متقدمة، وتشكّل أساساً لبناء دولة مدنية بملامح تونسية، وكان للمجتمع المدني دور كبير في إنجاز ما تحقّق، لاسيّما لاتحاد الشغل ولنقابة المحامين وللرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان .
وقد تابع العالم العربي كلّه، بل والعالم أجمع، الحراك المدني التونسي، القانوني والدستوري والمهني، ولاسيما في مسألة إعداد الدستور التونسي الجديد وصياغاته النهائية، خصوصاً في ظل الاستقطابات والتجاذبات بين المعارضة والقوى المشاركة في الحكم، وبالتحديد "الترويكا" المتحالفة . وكانت لحظة التصويت على الدستور من أكثر اللحظات حساسية، فقد عكست عقلانية وإدراكاً لمعنى التوافق، وللاعتراف بالآخر باعتباره شريكاً لا غنى عنه، ولذلك توصل الجميع "بقناعة" إلى دستور توافقي، عبّر عنه الشيخ راشد الغنوشي زعيم حزب النهضة بقوله "الله وفّق شعبنا الذي قام بثورة أنارت العالم . . . بالوصول إلى دستور توافقي بين التونسيين"، ولم يكن ذلك بمعزل عن تنازل الإسلاميين الذين يشكّلون أغلبية أعضاء المجلس التأسيسي في التخلي عن إصرارهم على اعتماد الشريعة الإسلامية كمصدر أساسي للتشريع، في حين وافق اليساريون والوطنيون والعروبيون وشبه الليبراليين على نص يعود لدستور العام 1959 وهو أول دستور بعد الاستقلال، يقول أن الإسلام دين الدولة .
تضمن الدستور 9 أبواب، حيث خُصّص الباب الأول للمبادئ الأساسية، وشمل على 17 مادة، تضمنت اسم الدولة ودينها ولغتها ونظامها الجمهوري وعلمها ونشيدها الوطني وشعارها، وخصصت بعضها إلى تأكيد حظر نزع الجنسية أو تسليم المواطنين إلى جهات أجنبية أو تغريبهم أو منعهم من العودة إلى الوطن، وضمان حرّية الفكر والتعبير والإعلام والنشر والاجتماع والتظاهر، والتنظيم الحزبي والنقابي والجمعياتي والمعارضة السياسية، وضمان حقوق المرأة وذوي الاحتياجات الخاصة، وتأكيد وحدة الوطن والدفاع عن حرمته والامتثال للقوانين وأداء الضرائب وتأكيد وجوبية الخدمة الوطنية، واعتماد نظام اللامركزية باعتباره أساساً للتنظيم الإداري الجهوي والمحلي مع الحفاظ على الشكل الموحّد للدولة، واعتماد السلم القائم على العدل باعتباره أساس العلاقة بين الدول والشعوب .
وشمل باب الحقوق والحريات، حق الحياة والكرامة الإنسانية ومنع التعذيب وحرية المعتقد وضمان الحق في الحياة الخاصة وسرّية المراسلات وحرمة المساكن والامتناع عن سحب الجنسية واعتبار العقوبة شخصية، والمتهم بريء حتى تثبت إدانته . ويعتبر باب الحقوق والحرّيات في الدستور التونسي الذي شمل 33 مادة من أفضل الدساتير العربية الحديثة على هذا الصعيد، وهو ثمرة من ثمار الحراك التونسي، لاسيّما بتأكيده على المواطنة الدستورية المستندة إلى حقوق الأفراد وواجباتهم المتساوية باعتبارهم مواطنين ينتمون إلى دولة يحكمها قانون ودستور ومؤسسات، وليس لأديان أو طوائف وإثنيات، وهو ما تورطت فيه بعض التجارب الدستورية الحديثة، كما هي التجربة الدستورية العراقية، التي تحدثت عن مكوّنات، في حين كان يفترض بها أن تتحدث عن دولة مواطنة .
وكان الباب الثالث بعنوان السلطة التشريعية الذي تضمن اختصاصاتها، لاسيّما انتخاب مجلس الشعب وشروط الانتخاب والترشيح لكل تونسي أو تونسية وذلك في 42 مادة، أما السلطة التنفيذية فقسمها الدستور إلى قسمين وأجملها في الباب الرابع، القسم الأول- رئيس الجمهورية وصلاحياته وطريقة انتخابه من جانب البرلمان (أغلبية ثلثي أعضاء مجلس الشعب) والقسم الثاني، الحكومة، الذي حددّ اختصاصاتها وطريقة تكوينها واتخاذ قراراتها .
أما الباب الخامس فقد اختص بصلاحيات السلطة القضائية وواجباتها ووظيفتها واستقلاليتها ودور القضاة، معتبراً كل تدخل بالقضاء جريمة لا تسقط بالتقادم، وهو نص لم أجد ما يوازيه في الدساتير العربية، واضعاً بعض الضوابط لتأسيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية باعتباره شخصية معنوية مستقلة إدارياً ومالياً، وكذلك للقضاء العدلي الذي يشمل محكمة التعقيب ومحاكم الاستئناف والمحاكم العقارية وغيرها .
واختصّ الباب السادس بالسلطة المحلية، التي يفترض تأسيسها على أساس اللامركزية الإدارية، وتنتخب المجالس المحلية والبلدية بالانتخاب المباشر الحر والسري .
أما الباب السابع فقد خُصص للهيئات الدستورية، وهي هيئات توسّع الدستور التونسي على سواه من الدساتير في تحديدها، مؤكداً استقلاليتها مثل الهيئة المستقلة للانتخابات، والهيئة المستقلة للإعلام، وهيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة، والهيئة الوطنية لحقوق الإنسان، والهيئة الوطنية للحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد، وهي هيئات مستحدثة أخذت بعضها عدد من الدساتير العربية الجديدة ولكنها لم تكن بهذا الاتساع والشمول .
أما الباب الثامن فقد تناول طرق تعديل الدستور الذي منح الحق بموجبه لطلب التعديل إلى رئيس الجمهورية أو ثلث أعضاء مجلس الشعب . وكرّس الباب التاسع للأحكام الختامية، فاشترط عدم تعديل الدستور الاّ بعد خمس سنوات من دخوله حيّز التنفيذ، كما اعتبر محظوراً تعديل دين الدولة (الإسلام) ولغة الدولة (العربية) وطابع نظامها (الجمهوري) وصفة الدولة (المدنية) ومكتسبات حقوق الإنسان وحرياته المضمونة في الدستور وعدد الدورات الرئاسية ومددها بالزيادة (وذلك باعتبارها مواد جامدة) صيغت على أساس التوافق الوطني والعقد الاجتماعي الجديد .
لم يكن الوصول إلى صيغة الدستور التونسي الجديد مهمة يسيرة، فقد جاء بعد مخاض عسير وشد وإرخاء وتراجع وتقدم، لكن الجميع تحلّى بشجاعة "المنتصر" للوصول إلى صيغة التوافق، التي قد تكون روح خيرالله التونسي المصلح الدستوري الكبير قد خيّمت على أجواء السجال والنقاش التي عكست نضجاً وعمقاً كبيرين .
صحيفة الخليج الاماراتية ، الاربعاء 5/2/2014