حيرة المثقف في الواقع العربي الراهن
ينقسم المثقفون في العالم العربي إلى فريقين أحدهما يؤيد التغيير مهما كان الثمن، فقد وصل إلى حافة اليأس من أوضاع اقتصادية وسياسية واجتماعية في غاية القسوة وكاد الكثير من أحلامه أن يتبدّد في ظلّ ضياع فرص التغيير حتى بدت الأنظمة المستبدة وكأنها قلاع حصينة لا يمكن اقتحامها أو تحطيمها، أما الفريق الثاني فقد نظر إلى التغيير بحذر، ولا سيّما أن قسماً منه أُخذ على حين غرّة، وبشكل مفاجئ اكتشف أن بعض قوى التغيير، بعيدة عنه في الكثير من أطروحاتها الراهنة والمستقبلية، ففي حين كان يريد التغيير جذرياً عميقاً، فقد رآه فوقياً شكلياً، وهو ليس ما انتظره لعشرات السنين في حلم بدولة مدنية وحرّيات واسعة وعدالة اجتماعية .
وإزاء هذه الحيرة الداخلية والاستقطاب والتباعد في المواقف، ارتفع منسوب التدخل الخارجي بصورة مباشرة أو غير مباشرة وكاد الكثير من المثقفين وفي زحمة المشهد الجديد أن ينسوا الطغيان الداخلي، مثلما ينسى كثيرون أيضاً العدوان الخارجي، وتلك كانت محنة العديد من المثقفين العرب الذين وقعوا بين نارين، نار الطغيان ونار العدوان . وتكرّر الأمر في ثلاث محطات أساسية: الأولى عند غزو القوات العراقية للكويت والثانية عند الغزو الأمريكي للعراق، وتظهر الصورة أكثر قتامة واستقطاباً بعد موجة الربيع العربي، لا سيّما بصدد المسألة السورية .
ربّما قلّة قليلة تلك التي كانت متوازنة، بحيث لا تنسى الطغيان وهي تتحدث عن العدوان، ولا تنسى العدوان وهي تتحدث عن الطغيان، ولعلّ مثل هذا الموقف اليوم يعتبر معياراً لإخلاص المثقف لثقافته، حتى وإن لقي نقداً من الفريقين اللذين يستسهلان اتخاذ المواقف بين الأسود والأبيض، انطلاقاً من معايير إيديولوجية وتصوّرات مسبقة، في حين أن هاجس المثقف الأساسي هو الحرية أولاً وقبل كلّ شيء، وهذه حاضنة إبداعه وتفكيره الحر ومن دونها لا يمكن له حتى الدفاع عن حق الحياة وعن القيم الإنسانية الأخرى .
فالحرية تمثل القيمة الأساسية للوجود الإنساني منذ الأزل، خصوصاً صراع الإنسان ضد الإنسان وصراعه ضد الطبيعة، ومهما اختلفت الحضارات والأديان، وانقسمت الفلسفات والمجتمعات، فإن الحرية ظلّت تمثّل الحافز الأساسي للصراع بين الخير والشر وبين الظلم والعدل . ولعلّ معيار الحرية يحظر بقوة ويزداد تأثيره، مع تقدم المجتمعات وتطوّرها، وقد اتخذ المسار إلى الحرية طريقاً طويلاً ومعقّداً، على مرّ العصور، وبالتراكم والتدرّج أضافت مختلف الحضارات والثقافات تنوّعاً إليه لتعميقه حتى ظهر بشكله المعاصر، وخصوصاً في الثورة الفرنسية، عبر مفاهيم جديدة وحقوق تبلورت لاحقاً في قوانين ومن ثم في مؤسسات ومساءلات، بحيث لا يمكن الحديث عن القيم الإنسانية الرائدة من دون شرط توفّرها كمدخل لا غنى عنه للفضاء الإنساني .
وإذا كان المثقف بشكل عام والمثقف العربي بشكل خاص في فترة الحرب الباردة عانى من ضغوط كثيرة، خصوصاً في ظلّ احتدام الصراع الآيديولوجي بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي، فإن معاناته تعاظمت في فترة ما عُرف بحقبة النفط أو البترو دولار، وصولاً إلى الانهيارات الدراماتيكية التي عصفت بالنظام الدولي الثنائي القطبية الذي أقيم في أعقاب الحرب العالمية الثانية . وتعمّقت حيرة المثقف لدرجة المعاناة أحياناً ليس على صعيد الصراع الداخلي فحسب، بل على صعيد الصراع الدولي أيضاً، وإذا كان القرن التاسع عشر قرن الصراع القومي، والقرن العشرين، قرن الصراع الإيديولوجي، فإن القرن الحادي والعشرين وهو قرن العولمة بامتياز، ويعتبر قرن المصالح ولا سيّما الاقتصادية .
وإذا كان مثقف اليوم يتطلّع إلى الحرّية ويأمل في توسيع دائرتها ما بعد التغييرات التي حصلت في العديد من البلدان العربية مثل تونس ومصر وليبيا واليمن، وظل يترقب ما يحصل في سوريا باهتمام بالغ، فإن الكثير من آماله خابت وأحلامه تبدّدت بسبب الفوضى العارمة التي ضربت المنطقة، وحجم التدخل الخارجي، وحالة الانفلات الأمني والخراب والدمار والعنف الذي أعقب حركات التغيير، التي كان من أولى شعاراتها الحرية والكرامة . وتحوّلت معاناة المثقف من شحّ الحرية سابقاً، إلى انفلات شظاياها من الجهة الأخرى، بسبب وجود قوى التطرف والغلو وارتفاع موجات التكفير والتحريم .
لعلّ هذه التطوّرات، بإيجابياتها (التخلص من الأنظمة القديمة) وسلبياتها (انفجار العنف والفوضى) أثّرت على نحو بليغ في المثقف، وكان لصعود التيار الإسلامي أو الإسلاموي وتصدّره المشهد السياسي، أحد العوامل الجديدة في إحباط الكثير من المثقفين، لا سيّما بعد فشل المشاريع اليسارية والعروبية السابقة من جهة، ومن جهة أخرى فإن الرسائل الأولى للمشروع الإسلامي، وخصوصاً بعد أن وصل إلى السلطة لم تكن مشجعة سواءً في مصر أو تونس، حيث كانت أطراف مؤثرة منه تحمل معها قرارات التحريم والتأثيم، ما زاد في تشاؤم المثقف وأسهم في حالة الإحباط والقنوط التي عانى منها لسنوات طويلة . خصوصاً باندلاع الصراعات الثانوية وتفريعاتها الطائفية والمذهبية والإثنية والعشائرية وغيرها من تلك القضايا التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل .
المثقف إضافة إلى همومه العامة التي هي هموم المجتمع، ظلّ هاجسه المفقود، هو حرّية التعبير، فتراه إمّا التحق تابعاً للسلطات ينمّق لها أطباق الآيديولوجيا على طريقة صاحبنا هلال الصابئ، الذي كتب إلى عضد الدولة البويهي، كتاباً عن “بني بويه” فلمّا سأله أحدهم أحقاً فعلت ذلك؟ أجابه بلى، إنها “أباطيل ننمّقها وأكاذيب نلفّقها” أو على طريقة أبو حيان التوحيدي، الذي كتب وناقش وحاور وجادل وساجل طيلة سبعة عقود قضاها في أتون المعركة الفكرية والثقافية في عصره، فلما بلغ شأوه، وهو على مشارف التسعين، أطعم كل ما كتبه إلى النيران قائلاً: إنه أحرقها لقلّة جدواها وظّناً بها على من لا يعرف قدرها بعد موته .
أو أنه سلك سبيل غاليلو، فقد تجرّع كأس السمّ على أيدي كهّان القرون الوسطى “المظلمة” ومحاكم التفتيش باسم الدين، لكن الأرض ظلت تدور . وفي حالات أخرى فضلّ المثقف الانكفاء أو الهرب إلى الأمام، فخسر نفسه أو خسرنا إبداعه لحين أو لكل الوقت . وذلك على طريقة معالجة جمال حمدان الذي اختار العزلة وسيلة للاحتجاج، أو نموذج هادي العلوي الذي تحدّث عن المثقف الكوني باستعادة التاريخ الصوفي وربطه بالفلسفة التاوية الصينية مشترطاً عمق المعرفية والروحانية والترفع عن الخساسات الثلاث: المال والسلطة واللذائذ، تلك الصورة التي يمثلها هادي العلوي نفسه .
وفي عالمنا العربي والإسلامي نماذج كثيرة على تحريم الفكر وتجريم التفكير ومنع حرية التعبير والرأي ورفض الحوار ومصادرة حق الاختلاف والتنكّر للتعددية والتعايش مع الآخر . وسادت تلك المفاهيم تحت يافطات مختلفة لكنها في الحقيقة مثّلت فكرة الرأي الواحد الإطلاقي، الشمولي، الذي يدّعي امتلاك الحقيقة، حيث توجب الطاعة على المحكومين حتى وإنْ كانت سلطة الحكام لا تستمد أساسها من العدل والشرعية والقانون .
إن السلطة أياً كانت أنظمتها ملكية أم جمهورية، حزبية أم غير حزبية، عسكرية أم مدنية يمكن أن تصبح مُلكاً عضوضاً كما قالت العرب إذا ترافقت مع محاولات التسلّط وفرض الرأي بالقوة وغياب الرقابة وضعف المساءلة وتعطيل مبدأ سيادة القانون، أما إذا صاحبتها وسائل تكنولوجية حديثة وأساليب تضليل جديدة ودعاية سوداء، غدت أكثر قسوة ووحشية ولا إنسانية، وذلك حين تستهدف انتزاع عقيدة أو التبرؤ منها بالتعذيب والإكراه أو بالديماغوجيا والتزييف .
لقد لعب المثقفون في القرن التاسع عشر وأوائل العشرين دوراً متميزاً مقتحمين ميادين مهمة، فشبلي شميل ومن بعده سلامة موسى دعيا لتحقيق العدالة الاجتماعية في إطار الاشتراكية، وقاسم أمين نادى بتحرير المرأة ومحمد عبده اهتم بتطوير الفكر الديني . أما عبدالرحمن الكواكبي فقد شدّد على تغيير نظم الحكم وتحدّث عن طبائع الاستبداد، وفعل الشيخ حسين النائيني بعده بهذا التوجه ودعا الأفغاني إلى الجامعة الإسلامية . ولعمري إن تلك الحركة الإصلاحية تركت تأثيراتها اللاحقة في عموم التطور الفكري في المنطقة وفي مستوى الصراع العربي التحرري ضد الهيمنة الأجنبية . وكانت حركة المشروطة عام 1906 في إيران والحركة الدستورية (عام 1908) فيما بعد في تركيا دعوة لتحديث نظم الحكم والتمسك بالدستور . ومع كل مراحل التطور اللاحقة، سواءً بتحقيق الاستقلال أو بعدها، فإن الحرية وخصوصاً حرية الفكر والتفكير واستقلالية المثقف ظلت مفقودة، بل عوملت باعتبارها منطقة محرّمة ومختومة بالشمع الأحمر وإنْ جرى التخفيف عنها قليلاً فقد تم زرعها بالألغام .
إن حفظ المثقف لكرامته وكرامة الثقافة التي يحملها يقوم على مبلغ إخلاصه لهذه الثقافة على حد تعبير قسطنطين زريق . وقد اختلّت كثيراً معادلة الثقافي بالسياسي سواءً في ظل سيادة الأفكار النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا أو من خلال هيمنة الستالينينية ورائدها في الثقافة “جدانوف” في الاتحاد السوفييتي السابق، والتي شهدت حملة قمع وتصفيات لا نظير لها، أو خلال فترة المكارثية في الولايات المتحدة التي شهدت حملة إرهاب وبخاصة ضد المثقفين أو خلال محاولات تطويع المثقف في العالمين العربي والإسلامي تحت يافطات مكافحة الإرهاب الدولي بهدف فرض الهيمنة وتسويق الخطاب السائد، أو إعادة إنتاجه اليوم على نحو جديد بحيث أوقعت المثقف في حيرة التغيير وهو الذي يُفترض أن يحمل لواء التنوير .
* باحث ومفكر عربي
صحيفة الخليج الاماراتية ، الاربعاء، 25/9/2013