حكاية الحوار العربي – الكردي! ما أشبه اليوم بالبارحة؟
أرسل لي الأخ الدكتور منصور الجمري (رئيس تحرير صحيفة الوسط البحرينية) رسالة ومقالة كان قد نشرها في لندن قبل 22 عاماً، والمقالة لها حكاية مثيرة، لأنها تتعلق بالحوار العربي- الكردي الذي تم تنظيمه من جانب المنظمة العربية لحقوق الإنسان التي كنت أتشرف برئاستها حينذاك. والحكاية احتدمت بين المعارضين العراقيين حول مسألة حق تقرير المصير والفيدرالية التي قرر برلمان كردستان إقرارها في 4 تشرين الأول (اكتوبر) 1992، وموضوع مستقبل شعار الحكم الذاتي لكردستان الذي كانت المعارضة العراقية ترفعه ربطاً بالديمقراطية للعراق، ولاسيّما الحركة الكردية والحزب الشيوعي والأحزاب القومية لاحقاً، في حين لم تتضمن أية وثيقة حتى ذلك التاريخ ولأي حزب أو حركة إسلامية عراقية أو غير عراقية، أية إشارة إلى فكرة الحكم الذاتي أو الفيدرالية أو حق تقرير المصير باستثناء ما وردت الإشارة إلى الحكم الذاتي لأول مرة في منهاج حزب الدعوة الإسلامي 1992.
ولأن الفكرة راجت في إطار المعارضة، وخصوصاً عشية مؤتمر صلاح الدين 1992، ولأنها لقيت رفضاً وممانعة وتشكيكاً عربياً، رسمياً وشعبياً، بما فيها من جانب قوى وشخصيات وطنية واجتماعية، لذلك ارتأت المنظمة العربية لحقوق الإنسان، ودون اتخاذ مواقف مسبقة، عرض الموضوع على طاولة حوار فكري وثقافي، خصوصاً بدعوة 50 مثقفاً وباحثاً ومعنياً من العرب والكرد، إضافة إلى الاعلام، لسماع وجهات النظر واستمزاجها والاستئناس بها، علماً إن بعض الحاضرين أصبح قيادياً لاحقاً على مستوى الدولة.
لعلّ ما يجري اليوم بين الحكومة الاتحادية وسلطة اقليم كردستان، يطرح موضوع الحوار العربي- الكردي كضرورة لا غنى عنها مدنية وسلمية وحضارية، خصوصاً إذا ساهم به المثقفون ليقولوا رأيهم بما حصل، لاسيما تردّي العلاقات والإشكالات المتراكمة بشأن موضوع النفط ومصير كركوك والمناطق المتنازع عليها والمادة 140 وزاد عليها اليوم خطر داعش والإرهاب الدولي، واختلاط الأوراق والتباس المواقف، واستزراع العداء والكراهية والكيدية والبغضاء على نطاق واسع، بتعارض المصالح.. ألسنا بحاجة إذاً وعلى نحو شديد الشعور بالمسؤولية إلى حوار عربي – كردي جديد؟
*****
كان الملتقى الفكري قد ناقش مسألة الفيدرالية وحق تقرير المصير وقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، بما فيها العقد والتحدّيات الداخلية والإقليمية والدولية، فما أشبه اليوم بالبارحة؟
أعتقد أننا بحاجة كنخب عربية وكردية إلى حوارات معمّقة وتفاهمات ستراتيجية واتفاقات طويلة المدى وثقة متبادلة وصراحة أخوية كاملة، وهي التي تؤسس لعلاقة منزّهة خالية من الغرض أو التكسّب، وذلك بعيداً عن أجواء "المهرجانات" ذات الطابع الدعائي والتي تأخذ صفة المجاملة والاحتفالية.
إن ما تم لحد الآن من اتفاقات يقال عنها "ستراتيجية" لا تخرج عن كونها تفاهمات تكتيكية وطارئة أو ظرفية أحياناً، وفي الغالب قلقة، وأقرب إلى صفقات سرعان ما تظهر عيوبها، وخصوصاً وأن العراق بشكل عام والشعب الكردي بشكل خاص يدفع الثمن غالياً، لذلك تحتاج النخب بشكل خاص إلى حوارات جادة ومعمّقة تبحث في الآني والمستقبلي دون نسيان التاريخ، ولكن بأفق المستقبل وبروح التسامح والتضامن والنضال المشترك.
*****
من الشخصيات الكردية المهمة التي حضرت الملتقى: محسن دزئي وابراهيم أحمد وهوشيار زيباري ولطيف رشيد ومحمود عثمان وعمر الشيخموس وسامي وشورش وكاميران قره داغي ومحمد هماوندي وآخرين من الحزبيين حدك وأوك وبعض المستقلين.
ومن الشخصيات العربية حسن الجلبي وعامر عبدالله وسيد محمد بحر العلوم وهاني الفكيكي وعبد الكريم الأزري ومحمد عبد الجبار وسناء الجبوري وساهرة القرغولي وعايدة عسيران وحيدر شعبان (من العراق) وشخصيات من بلدان عربية مثل عبد الوهاب سنادة (نقيب الأطباء- من السودان) وعبد السلام سيد أحمد (السودان)، وأمير موسى (من السعودية) ومنصور الجمري (من البحرين) وهشام الشيشكلي ومحمود الخاني (من سوريا) وأحمد غراب (من مصر) وشبلي ملاّط وعبد الوهاب بدر خان وحازم صاغية (من لبنان) وآخرين.
*****
أعتقد أن إحياء مثل هذا الحوار الفكري وتبادل وجهات النظر إزاء ما هو مطروح وضاغط على الجميع يمكن أن يسهم في بلورة مواقف موحّدة للمثقفين العرب والكرد، خصوصاً في القضايا الستراتيجية، البعيدة المدى، وذات الطابع المبدئي، أما بشأن السياسات والمواقف، فحتى وإن كانت هناك اختلافات بشأن بعض وجهات النظر أو التقديرات المختلفة، فإن مجرد بحثها وإخضاعها للنقاش يقرّب من إيجاد الحلول والمعالجات المفيدة لأصحاب القرار.
أعتقد أننا بحاجة ماسّة اليوم وأكثر من أي وقت مضى للتفكير بالأطر المشتركة للحوار وتبادل وجهات النظر والهدف هو تعزيز الأخوة العربية – الكردية واحتواء التوترات وتطويق عناصر الانفجار والانشطار في ظل هذا الخضم الذي ينحو باتجاه المجهول، والنزعات التي تؤدي إلى التباعد والتباغض والكراهية.
ربما يكون مناسباً لو فكّرنا كمثقفين في الصيغة المناسبة اليوم لحوار مفكرين وباحثين وأكاديميين ونشطاء من المجتمع المدني وممارسين عرب وكرد، وربما من دول وأمم المنطقة أتراك وإيرانيين، وقد يكون مفيداً اقتراح بيروت وفيما بعد بغداد وأربيل مكاناً الحوار وقد تنبثق منه مؤسسة دائمة.
وكنت قد اقترحت ذلك في ندوة لاتحاد الأدباء والكتّاب العراقيين في النجف، مشفوعة بشهادة عن الحوار العربي – الكردي، الذي بادرت إليه جهتان ثقافيتان عربية وكردية .
ننشر في أدناه مقالة الدكتور منصور الجمري التي كتبها في 31اكتوبر (تشرين الأول) 1992.
*****
الملتقى الفكري للحوار العربي – الكردي يناقش "الفيدرالية والديمقراطية وحقوق الانسان
نشر في لندن في 31 اكتوبر / تشرين الاول 1992
الملتقى الفكري للحوار العربي – الكردي يناقش "الفيدرالية والديمقراطية وحقوق الانسان
لندن – منصور الجمري
بدعوة من المنظمتين العربية والكردية لحقوق الانسان عقد في لندن بتاريخ 17 و18 أكتوبر/ تشرين الأول 1992، ملتقى فكري للحوار العربي – الكردي حضره نحو 50 مفكرا ومثقفا عربيا وكرديا بينهم قادة سياسيون وكتاب وباحثون ورجال دولة سابقون من شتى الاتجاهات الاسلامية والليبرالية والديمقراطية والقومية والماركسية. واستهدف الحوار إبراز الجوانب الفكرية والدستورية للقضية الكردية والاقليات الأخرى في الوطن العربي لاندراج هذه القضية كجزء من حقوق الإنسان الجماعية التي تضمنتها اللوائح والوثائق الدولية المختلفة. وقد امتاز الحوار بالموضوعية والصراحة في تناول القضايا الحساسة والمصيرية التي تمر بها شعوب المنطقة في ظل الظروف والتطورات الراهنة.
افتتح الحوار رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان الدكتور عبدالحسين شعبان - فرع بريطانيا، مشيرا إلى أهمية الانتخابات التي جرت في كردستان العراق وقيام حكومة كردية في شماله، وإعلان المجلس الوطني لكردستان العراق للقرار الصادر بتاريخ 4 أكتوبر 1992 عن تحديد العلاقة القانونية مع السلطة المركزية واختيار المركز السياسي لاقليم كردستان وشعبه انطلاقا من حق تقرير المصير على أساس الاتحاد الفيدرالي ضمن عراق ديمقراطي برلماني يؤمن بتعدد الاحزاب ويخدم حقوق الإنسان المعترف بها في العهود والمواثيق الدولية. وتساءل شعبان عن المقومات التي اعتمدها الإعلان الكردي في ظل النظام العالمي الجديد وكيفية التصدي للمشكلة من زاوية فكرية ودستورية، مؤكدا أن اللقاء لا يستهدف اصدار قرارات بقدر ما هو حوار بقلب حار وعقل بارد.
وقدم أول بحث للقانوني العراقي الكبير الدكتور حسن الجلبي، شرح فيه المفاهيم والمقومات والقضايا من الناحية العلمية، قائلا: ان الفيدرالية أصبحت الشغل الشاغل للمعنيين بقضية العراق ومستقبل المنطقة. تشهد الحركة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في التاريخ ظاهرتين، ظاهرة الاتحاد بين الوحدات السياسية وظاهرة الاستقلال لكل وحدة عن الأخرى. ونرى ان الحركة تتجه وفي كل الاوقات تارة إلى الاتحاد بين الوحدات طلبا للاقتدار على مواجهة المشكلات وحلها وطورا الانفصال طلبا للحرية والخلاص من السلطة المركزية. ونجد ان مقومات أساسية مثل العرق واللغة والاقتصاد والتاريخ والدين تلعب دورا أساسيا في هذا الصدد: ولكنني (والحديث للدكتور حسن الجلبي) سأكز على مقومين وهما وحدة السلطة ووحدة الإرادة في العيش المشترك. تتمثل الأولى في رغبة من بيدهم الحكم والدول التي تعمل على احياء التاريخ القديم في تأسيس الدول والاوطان ذات الامجاد العظيمة. ويسعى هذا الاتجاه لايجاد دولة عظيمة بصرف النظر عما اذا كان اطراف هذا الكيان قد قبلوا هذا ام لا. وهذا يعود إلى يوم ان ظهرت الدولة الحديثة بعد انحلال سلطة البابا والامبراطوريات في القرن الخامس عشر والسادس عشر عندما طلع القانونيون مثل ماكيافيللي، روسو وغيرهما واستطاعوا ان يدخلوا للفقه القانوني مفهوم السيادة المطلقة (خضوع الناس للسلطان والملك وان ما يريده الملك يريده القانون) في ظل دولة واحدة.
وعرف الفكر السياسي الذي انجبته الثورة الفرنسية العام 1789 فكرة السلطة وتكوين القومية ليس عن سلطان الحاكم وانما نتاج إرادات أولئك الذين يعيشون في ظلها (حق تقرير المصير). ولذلك لم يستطع حكام الثورة ضم «السيفوا» الا بالاستفتاء والارادة الشعبية اذ لا يمكن سلخ اقليم او ضم آخر إلا عن طريق الرأي الحر.
وبعد الحرب العالمية الأولى أخذت عصبة الأمم المتحدة هذا الاتجاه الجديد بنظر الاعتبار وعلقت مصير بعض الاقاليم على ضرورة العودة للاستفتاء لمعرفة رأي السكان والشعوب ضمن ما توزع من مناطق ودول.
وبعد الحرب العالمية الثانية اعتبرت منظمة الأمم المتحدة هذا العصر عصر حقوق الإنسان وضمنت ذلك في ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر العام 1948.
وهكذا أصبح هذا العصر عصر إرادة العيش المشترك وليس وحدة السلطة أو حتى الوحدات الأخرى، وثبتت دول على رغم تباين لغاتها وقومياتها امكان العيش مع بعضها في ظل إرادة العيش المشترك. بينما اثبت ما حصل في الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا ان هذه الشعوب رأت مصالحها الحيوية واعتباراتها السياسية في العيش بانفصال في كيانات خاصة.
ثم تحدث من الجانب الكردي الصحافي كامران قره داغي قائلا: لقد اثبت الأكراد ومن خلال الطريقة التي تعاملوا بها في ظل ما يسمى بالنظام الدولي الجديد انهم اكثر الشعوب تحسسا بأهمية انتهاء الحرب الباردة، واعتبروا ما حدث فرصة تاريخية لابد ان يستفيدوا منها ولا يضيعوها. وعكست ديباجة قرار المجلس الوطني لكردستان العراق بشأن الفيدرالية هذا الادراك والفهم بالتقاط الاتجاهات الرئيسية في النظام الدولي الجديد واخراج القضية الكردية إلى المسرح الدولي. لقد اتخذت البشرية الديمقراطية في الحكم والادارة لتشييد دعائم حقوق الإنسان عبر احترام إرادة الشعب واقامة سلطة القانون وفصل السلطات الثلاث. ومن حسن الحظ ان الاكراد عموما لم يدخلوا في جدل داخلي عقيم مثل التساؤلات: هل هذا النظام الدولي أسوأ؟ أو هل أنه مؤامرة عالمية جديدة؟ أو هل انه مواجهة الغرب للإسلام؟ أو غيرها من الجدالات التي سيطرت على كثير من الاطروحات في العالم الثالث. استطاع الاكراد استعمال هذه الظروف لمصلحتهم واخراج قضيتهم من عزلة ضيقة في الدولة العراقية وفرضها قضية دولية بحيث أصبح مستحيلا ان يتجاهلها المجتمع الدولي.
ففي العام 1974 هجّرت الحكومة العراقية ربع مليون كردي إلى المناطق التي سيطرت عليها القيادة الكردية وحدثت مأساة حقيقية داخل كردستان. اما العام 1991 فقد تحولت المشكلة إلى قضية دولية. الشيء المهم قرار 688 الصادر عن الأمم المتحدة، اذ استطاعت القيادة الكردية ان تبني على هذا القرار، واثبت السلوك الذي سلكته القيادة التواصل بينها وبين المستجدات الدولية. وعندما طرح الرئيس التركي فكرة حماية الاكراد ايده رئيس وزراء بريطانيا وتطور الأمر إلى الوضع القائم حاليا. وأيضا كانت المفاوضات مع الحكومة العراقية تشير إلى نوع من التواصل مع الوضع الدولي.
والمسألة التي أوضحها تبني البرلمان الكردي للفيدرالية هو ان القضية ليست تعايشا بين أرض وأرض وانما بين شعوب. كما أوضح التناقض بين الوضع الاجتماعي والاثني والمذهبي وبين تركيبة النظام العراقي. من يحق له ان يقرر مصير الاكراد؟ هل الحق للعراقيين كلهم؟ هل هو الدستور العراقي الحالي؟ ام ان الاكراد هم انفسهم يقررون مصيرهم؟ وفي مداخلة للصحافي اللبناني حازم صاغية اشار إلى أن هناك سجالا ظاهرا ومستترا بين العرب والاكراد وهناك أسئلة يطرحها العرب على الاكراد. ان الاكراد اغتنموا الظرف الدولي، والبعض يتهمهم باقامة علاقات مع إسرائيل؟ لابد ان نسأل الاكثرية العربية عن المشكلة لأن مشكلة الاكراد انهم اذا نظروا بين المحيط والخليج لا يجدون لهم نموذجا واحدا يطمئنون له وهناك حالات لا تدعو للاطمئنان وانما للحذر. نسأل الاكثرية: هل هناك اتجاه آخر يعتمد على التسامح والتعددية؟
وتحدث الدكتور أحمد غراب (من مصر) قائلا ان الايديولوجيات القومية تقوم على الصراعات التي استغلها المستبدون في العراق. والاسلام رحمة لا ينظر للإنسان باعتبار قوميته. واجبنا تلافي التفرقة على الأساس الاثني إلى الاخوة في اطار اكبر. نحن نعلم ان الاسلام استغل استغلالا. ولكن عندما اقيمت حكومة اسلامية في إيران لم يقل احد انها حركة ايرانية او فارسية وهذا جعل المسلمين يتعاطفون معها على رغم انهم من دول مختلفة. احترام الحقوق لا يأتي عن طريق النظام الدولي الجديد وما حدث في الجزائر عندما انتخب العرب والبربر جبهة الانقاذ رفضت النتيجة وسحقت. نريد ديمقراطية لكل إنسان وكل اقلية لها حقوق يضمنها الدين الاسلامي.
الاستاذ عبدالكريم الازري (وزير عراقي سابق): لقد اقر مؤتمر فيينا حق تقرير المصير للاكراد على ان لا يخالف هذا الحق الانفصال عن الدولة العراقية. وما اتخذه المجلس الوطني عبر قرار الفيدرالية حلا للقضية الكردية تسبب في ردود فعل قوية من بعض الجهات ناتجة عن عدم وضوح الفكرة. لقد كان الحكم الذاتي يعتبر هبة ومنحة من الحكومة العراقية للشعب الكردي يمارس فيها بعض الصلاحيات والاختصاصات.
الدكتور محمود عثمان (احد القادة الاكراد): لم تعترف بحقوق الاكراد اية دولة من الدول، ولم يعان شعب مثل ما عانينا. وكنت حاضرا كعضو قيادة في الجبهة الكردستانية في كل المداولات والقضايا بضمنها قرار الفيدرالية الاخير. لقد عانى الشعب الكردي من وضعه الجغرافي ومحاصرته من قبل دول كبيرة ولم تكن له قرارات حرة. وانما كل قرار كان لابد من حساب ما تقبله او ترفضه الدول المجاورة بعد ان قسم الاستعمار الشعب الكردي لعدة اقسام. كما لم تشأ أي قوة دولية الخروج على مصالح الدولة الاقليمية. فأميركا لم تكن توافق على شيء اذا كانت تركيا او إيران او السعودية ضد ذلك، وعلى رغم ان الأميركيين ضد إيران الا انهم لا يريدون ازعاجها كما قالوا ذلك لنا.
في العام 1975 كنا نتصور خاطئين ان إيران لا يمكن ان تتخلى عن اكراد العراق لان اميركا كانت على الخط. وثبت بعد ذلك ان أميركا في شخص كيسنجر هي التي خططت اتفاق الجزائر، والسوفيات ايدوا صدام من جانب آخر. وعندما كتب المرحوم البرازاني إلى كيسنجر يخاطبه بمساعدة الاكراد من الناحية الإنسانية على الأقل، أجاب ان الاتفاق كان بين طرفين وقد يضر بطرف ثالث، وهذه سياسة ليست فيها اعتبارات اخلاقية.
اما الوضع الدولي الجديد وبعد انتهاء الحرب الباردة وحماقات صدام الذي لو لم يدخل الكويت لما كان بإمكان الشعب الكردي تحقيق ما حصل عليه، ليس هدف الشعب الكردي تفتيت العراق ولكن بسبب ما تعرضنا له من قصف كيماوي ولم يرتفع صوت عربي واحد، نريد ثلاثة ضمانات: ضمانات كردية: ان نبقى موحدين سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وعسكريا، وضمانات ديمقراطية داخل العراق، وضمانات دولية من أجل التدخل تحت ظل الأمم المتحدة. ومن أجل ذلك طرحنا مشروع الفيدرالية بعد ان عرضناه على لجنة العمل المشترك والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، لكي نحصل على اتفاق جماعي بهذا الشأن ولكي نتأكد من الحصول على حقوقنا في المستقبل.
ثم تحدث الوزير العراقي السابق الاستاذ عامر عبدالله وقدم بحثا مستفيضا عن مشروع العراق الفيدرالي قال فيه: ان تقرير المصير ليس حقا وانما مبدأ قبل ان تدونه مواثيق حقوق الإنسان وهو مبدأ إنساني وحضاري. وقد كان ضمن برنامج البلاشفة في ثورة أكتوبر 1917 الا انهم لم يترجموا هذا الحق للواقع. والفيدرالية تعني المشاركة السياسية والاجتماعية في السلطة من خلال رابطة نوعية بين اقوام وشعوب وتكوينات مختلفة من أصل لغات وأديان مختلفة. وهو نظام يوحد الكيانات المنفصلة في امة واحدة ضمن اطار سياسي واحد مع احتفاظ الكيانات بهوياتها من حيث التكوين السكاني واللغة والثقافة والدين إلى جانب مشاركتها في صوغ القوانين المحلية والمركزية.
والفيدرالية توليف بين متناقضات، بين الاستقلالية والمركزية، بين التكامل والتجزيء، كما هو الحال في سويسرا، وألمانيا، وأميركا، وكندا. ويعني التوفيق بين الاتحاد اللامركزية بين الحكومات المحلية والفيدرالية من خلال المساواة بين جميع الاطراف واستبعاد نزعة الهيمنة والاستفراد من الحكومة المركزية واستبعاد مبدأ المنحة والمنة والعمل بمبدأ التقسيم الوظيفي للسلطة في صوغ واقرار دستور الاتحاد الذي يحدد سلطات ووظائف الادارة المركزية والمحلية. بعد ذلك طرح عامر عبدالله مشروعا مفصلا للدولة العراقية الفيدرالية ضمنه خبراته السابقة في المناصب الحكومية.
ثم جاء دور المفكر الكردي الاستاذ عمر شيخموس الذي تحدث عن القضايا القومية في الوطن العربي والشرق الأوسط، وبدأ حديثه بتعريف «الوطن العربي» قائلا انه تعبير عن الوطن المنشود كهدف منذ اوائل القرن العشرين وبشكل أوضح منذ الاربعينات لحركة سياسية هي الحركة القومية العربية التوحيدية، وليس عن وطن واقعي موجود لجميع الدول التي تتكلم اللغة العربية أو الاعضاء في الجامعة العربية أو المجتمعات التي تنتمي إلى الهوية والثقافة اللامة. وان هذه الحركة قد اختبرت حديثا بزات فكرية عنيفة وازمة شديدة نتيجة فشل التجربة الوحدوية بين مصر وسورية العام 1961 ونكسة يونيو/ حزيران 1967 والانقسام الجذري خلال الحرب العراقية - الإيرانية (1980 - 1988) وخلال الحرب الخليجية الثانية العام 1991، نتيجة احتلال وضم ونهب العراق لدولة الكويت - الجارة العربية المساندة إلى العراق خلال الحرب الخليجية الأولى والعضوة في جامعة الدول العربية.
استخدم تعبير الشرق الأوسط لأول مرة العام 1902 من قبل الغربيين لتسمية منطقة غير محددة تتاخم منطقة الخليج، وتم تثبيته الرسمي باستعماله من قبل الدولة البريطانية في اواخر الثلاثينات بتسمية «القيادة العسكرية للشرق الأوسط».
إن الصرعات القومية والاثنية في اواخر الستينات وخصوصا خلال العقدين الأخيرين اذهلت معظم الباحثين والمراقبين للحوادث واصحاب القرار السياسي نتيجة لفهم خاطئ سابقا بان عمليات الاندماج السياسي والاقتصادي والتنمية الصناعية وبناء الدولة الحديثة ستؤدي تدريجيا إلى زوال او ضعف الهوية والصراعات القومية وظهور هويات إقليمية وكونية لتحل محلها.
وأشار شيخموس في موقع آخر من كلمته إلى أن هناك فهما خاطئا آخر تحكم في عقول المفكرين والحكام في المنطقتين وهو التصور بأن الحركات القومية للشعوب الغالبية تعود إلى جذور تاريخية قديمة مشروعة بدلا من فهمها تطورا برز نتيجة الحركة الاصلاحية الدينية في أوروبا وافكار الثورة الفرنسية ومن ثم تشكيل الدولة القومية، او الدولة الوطنية في معظم ارجاء اقاليم أوروبا المختلفة نتيجة للتطور الرأسمالي فيها وخصوصا الثورة الطباعية التي سهلت تكوين ما يسميها بنركت اندرسون بـ «المجتمع المتخيل»، أي القوم او الامة، ومن ثم تصدير هذه التشكيلة السياسية والاجتماعية وهذا النمط من الفكر السياسي إلى بقية ارجاء العالم عبر التوسع الأوروبي واستعمار مناطق فيه وبروزها تدريجيا في منطقتي الشرق الأوسط والوطن العربي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
ان الصفة المميزة لمعظم هذه الدول المستحدثة في الشرق الأوسط والوطن العربي هي تكوينها المتعدد الاثنية والقوميات وغياب شرعيتها لدى مواطنيها بسبب أرضية تشكيلهم من قبل قوى خارجية وليس نتيجة نمو ذاتي خاص بمجتمعاتهم. ولذلك تصبو قياداتهم السياسية والحاكمة مندفعة بايديولوجية «بناء الدولة» إلى النزوع إلى المركزية المشددة واستعمال اساليب القهر والعنف لتأمين الاندماج والتوحيد الاثني في عملية الالتحام والبناء القومي المنشود.
وبعدها شرح شيخموس الاسباب التي تؤجج النزاعات الاثنو - قومية مثل الشعور بالغبن واستثمار الموارد الطبيعية وثروة مناطق الاقلية لصالح القومية الغالبية، وسد مجال التقدم والوصول إلى مراكز مهمة داخل المجتمع والدولة امام العناصر المتأهلة المنتمية إلى الاقلية، وغياب الديمقراطية والتعددية السياسية، والتعسف من قبل الغالبية، وازدياد الوعي السياسي لدى الاقلية، واهتمام المجتمع الدولي والمنظمات الدولية غير الحكومية بحقوق الإنسان والاقليات وعمليات التغيير السياسي والديمقراطي، واخيرا التطورات والانتفاضات التي حصلت في دول أوروبا الوسطى والشرقية والتي ادت إلى انهيار الأنظمة التوتاليتارية والانتفاضات الأخرى كانتفاضة شعب فلسطين.
الدكتور عبدالوهاب سنادة (من السودان) تحدث عن مشكلة الاقليات في السودان وخصوصا ما يجري في جنوب السودان، وأشار إلى أن المهم في الأمر ان يحصل الاتحاد بوسائل ديمقراطية وحصول مساواة في المواطنة. والسلطة الحالية طرحت مبدأ الفيدرالية كحل للمشكلة ولكن السؤال المطروح هو هل ان هذا الطرح تعبير عن الادارة السياسية ام فرض لشكل فيدرالي بواسطة دكتاتورية. لقد بدأت المشكلة في السودان بين الشمال والجنوب بين القوميات العربية والافريقية بعد خلق الانجليز ضغائن لدى الافارقة عن العرب عبر اثارة موضوع تجارة العرب بالعبيد.
كما لعب التبشير المسيحي دوره عبر تسمية الشمال المسلم والجنوب المسيحي. ولكن الحكم لم يستطع حل المشكلة حلا سليما، واشعر الجنوبيين بأنهم غير متساوين. وزاد المشكلة ظهور تيارات مثل القومية العربية، ساعدت بشكل غير واع على الانتقاص من غير العرب. كما ساهمت الاصولية الاسلامية سلبيا على التعايش والارادة الموحدة ما خلق اتجاهات انفصالية مع الجنوبيين بعد إعلان قوانين الحدود.
ثم اشار الدكتور عبدالسلام سيدأحمد (من السودان) ان الفيدرالية طرحت في السودان ولكن لم تضمّن في الدستور، وحرب الانفصال استمرت بدعم من قبل الكنائس ومجموعات أوروبية لان الجنوبيين يعاملون معاملة درجة ثانية، وعندما اوقفت الحرب العام 1972 لفترة من الزمان لم يطبق الحكم الذاتي بسبب تسلم الحكم حزب واحد برئاسة جمهورية دكتاتورية. وعندما اعلن جعفر نميري العام 1983 الحدود الاسلامية قامت الحرب الانفصالية من جديد والتي مازالت مستمرة حتى الآن. الفيدرالية طرحت حديثا ولكن الامر بحاجة إلى نظام سياسي مستقر يعتمد العلمانية والديمقراطية والفيدرالية.
الدكتور محمود الخاني (من سورية): انني ارجو ألا تتحول المشكلة بين الحكام والشعوب إلى مشكلة بين الشعوب نفسهم. الاسلام اعطى حق الجعلية، «وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا» (الحجرات: 13) واعطى الإنسان الحرية «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا» واعطاهم الديمقراطية من خلال مبدأ الشورى وضمن لهم حقوق الإنسان من خلال حق المواطنة تحت ظل النظام السياسي. انا اسأل ما هو البعد الاستراتيجي في الطرح القومي؟ ففي البلد العربي يسام العربي اشد انواع العذاب، ونحن نستشهد بحقوق الإنسان في الثورة الفرنسية وننسى ان الاسلام قبلهم جميعا اعطى هذه الحريات. يجب ألا ننسى ان الدكتاتورية في بلداننا تدعمها الحكومات التي نفتخر بها. ففي السودان عندما يخرج مليون إنسان يطالب بالشريعة الاسلامية لا نستطيع القول ان الاستقرار في السودان لا يتم الا عن طريق نظام علماني.
الدكتور شبلي الملاط (مفكر مسيحي لبناني): انا سعيد من الطابع المصيري في الحدث. ان الحلول صعبة جدا ففي الوقت الذي يلزم القبول بان حدود العراق مصطنعة فان البديل لهذه الحدود حدود مصطنعة اخرى، ارجو ان تتحول هذه الندوة الى عملية لصوغ المستقبل لمعالجة المتطلبات بصورة موضوعية ولابد لنا من خلق آلية كما كان الامر خلال الثورة الاميركية، من خلال نشر البحوث التي تحظى بغطاء اكاديمي.
الدكتور محمد الهماوندي (شخصية كردية): لا بد من وجود الاسلاميين الاكراد في مثل هذا اللقاء. اما بالنسبة للمسألة السودانية ففي الواقع ان الاسلام كان بعيدا عندما كانت مشكلة السودان 1955. الطرح الاسلامي في ذاتنا وروحنا على رغم سوء تطبيق الفكر الاسلامي. ان الفيدرالية موضوع قريب من فكرة حكم الولايات في الاسلام كما ان حقوق الإنسان في الاسلام اوسع واشمل من المواثيق الدولية.
الاستاذ هشام الشيشكي (سورية): كردستان، جنوب السودان، البربر، كل هذا يمثل خطرا على الطريقة «الفابية» عندما هاجم هانيبال الاجنحة ثم القلب. ما العلاقة بين جنوب السودان والاكراد؟ العام 1972 ذهبت إلى السودان عندما طرحت الفيدرالية التي لم تنجح والسبب في افشالها كان الغرب. ان مشروع اسرائيل الكبرى سيستفيد من دولة للاكراد التي ستصبح تحت الاستعمار الاقتصادي الاسرائيلي عندما تعقد المصالحة العربية - الاسرائيلية ويزور قادة اسرائيل البلاد العربية.
الاستاذ ابراهيم احمد (مفكر كردي): ان بلد الاكراد الواقعة في الشرق الاوسط كانت شبه مستقلة ومؤلفة من امارات تزداد استقلاليتها وتقل بالنسبة لوضع الامبراطوريات المتسلطة في المنطقة. وظل الحال على هذا المنوال، حتى منتصف القرن التاسع عشر، بعد سيطرة الدولة العثمانية وقضت على تلك الامارات. ووزغت اجزاء كردستان الى ولايات (بقي جزء طبعا تحت سيطرة الدولة (الإيرانية): وظلت كردستان في ولاية الموصل وهذا أكبر قسم من ناحية المساحة والنفوس في البلاد. اعتقد ان الحساسية الموجودة ناشئة من الخطأ التاريخي الذي يقع فيه بعض الكتاب والمفكرين والسياسيين. ولاية الموصل لم تكن جزءا من العراق الا بعد تشكيل الدولة العراقية.
بدأ الانجليز باحتلال البصرة بعد إعلان الحلفاء الحرب على الدولة العثمانية باعتبارها حليفة للألمان وتقدموا ووصلوا لولاية البصرة وبغداد. وقبل احتلال ولاية الموصل، عقد اتفاق الهدنة بين بريطانيا وتركيا، غير ان جيوش الاحتلال تقدمت واحتلت الموصل وبعض الاجزاء من الولاية. وخلقت مشكلة ولاية الموصل التي يعاني منها إلى الآن الشعب الكردي الملحق بالعراق. عندما احتل الحلفاء اراضي الدولة العثمانية نشروا إعلانات ان الجيش دخل العراق محررا لا مستعمرا.
وأعلنت الحكومتان الفرنسية والبريطانية ان نيتهما ليس السيطرة وانما الانقاذ من الاضطهاد العثماني واعطاء الشعوب حقها في تقرير مصيرها وتشكيل الحكومة التي تريدها. وأعلنت بصورة عامة مبادئ ويلسون الاربعة عشر المتضمنة لحق تقرير المصير والتي تعتبر مبادئ سامية.
انخدعت الشعوب بهذه التصريحات والوعود الإنسانية ومن جملة هذه الشعوب الشعبان العربي والكردي وحصلت اتصالات وعلاقات بين البلدان العربية والقوات المحتلة.
العرب رأوا الوعود نقضت فقاموا بثورتهم (1920) في البصرة وبغداد، ما تسبب بنقل الحاكم العسكري تشكيل حكومة مراقبة والاتيان بالامير فيصل بعد ان طرده الفرنسيون من سورية. وفعلا اصبح ملكا على العراق ووقعت اول معاهدة فيما يتعلق بشروط الانتداب وهي حجة لتأويل قاعدة «حق الفتح». وكان حقا معترفا به قبل الحرب الاولى الذي يقول ان اي بلد يحتل بلدا اخر فمن حقه ان يحكمه. وعندما ارادت بريطانيا تغطية مفهوم حق الفتح استخدمت حق الانتداب ولهذا السبب حكمت بريطانيا العراق باعتبارها الدولة المنتدبة.
عين الشيخ محمود حاكما لكردستان بعد قبوله دخول البريطانين للسليمانية. طلب ادخال كردستان في الدول المحررة واعطاء الاكراد حقهم في تقرير مصيرهم. وكان الشيخ محمود مؤمنا كل الايمان بهذه الوعود. إلا انه فشل واعتقله الانجليز ونفي للهند.
وطالب الاكراد بإعادة الاراضي لانها احتلت بعد الهدنة والبريطانيون يريدونها ضمن العراق. وكان الموصل ضمن حصة فرنسا حسب اتفاق «سايكس - بيكو». ولكن بحنكة البريطانيين تمكن لويد جورج من ان يتبادل بأماكن اخرى مقابل الموصل.
وفي معاهدة لوزان التي عقدت بين بريطانيا والحلفاء وتركيا من جهة اخرى كانت الموصل عقدة الخلاف. اما معاهد سيفر فقد اعطت بعض الحقوق للشعب الكردي الا ان مصطفى كمال اتاتورك قضى على هذه المعاهدة. وكان الاكراد على علاقة جيدة مع السوفيات طوال عهد التشكيل، وعندما اصبحت البلشيفية خطرا على مصالح الحلفاء للحصول على تركة الرجل المريض (الدولة العثمانية) رأت بريطانيا ان من صالحها ان تتصالح وتتنازل للدولة التركية عن الاكراد بينما تنازل الاتراك عن آسيا الوسطى وبقي الخلاف على الموصل. وقررت عصبة الامم ارسال لجنة الى المنطقة لدراسة المسألة واعطوا قرارا لاسباب سياسية اقتصادية وغيرها بالحاق الموصل العراق. وإلى ذلك الحد كانت كردستان تحت الحكم الانجليزي المباشر.
ألقى المندوب السامي البريطاني كلمة قال فيها: اريد ان انصحكم ان لا تكرروا خطأ الاتراك عندما ارادوا ان يكونوا أوروبيين يلبسون القبعة. وما قاله الملك فيصل اننا لا نكرر هذه الجريمة وان الامة العربية قامت ضد الدولة العثمانية وان العراقي المخلص هو الذي يساعد الكردي ان يكون كرديا حقيقيا مخلصا. قبل ذلك اعلنت الحكومتان العراقية والبريطانية في 24 ديسمبر/ كانون الأول 1922 اعترافهما بحق الاكراد بتشكيل دولتهم المستقلة وطالبتهم بارسال موفد إلى بغداد للتفاوض بشأن العلاقات السياسية والاقتصادية والحدودية.
وجاء في قرار عصبة الامم ان الاكراد اذا لم ينالوا حقوقهم القومية واستقلالهم الذاتي فانهم يفضلون الالتحاق بتركيا على العراق. مع ذلك فإن الدستور العراقي آنذاك لم يتضمن ولا كلمة لحقوق الاكراد او اسمهم. بينما كانت الدولة البريطانية تذكر هذه الحقوق وتبالغ فيها. السبب في هذا الاهمال ان بريطانيا لم تكن قد قررت تشكيل حكومة كردية مستقلة او حتى ادارة مستقلة وانما كانوا يستخدمون الاكراد لتهديد الاتراك عندما كانت مفاوضات لوزان تلاقي مقاومة من الحكومة التركية.
ومن أجل ارضاء الاتراك ترك الانجليز كل حقوق الاكراد. ولكن طوال هذه السيطرة وحتى انتهاء الحرب العالمية الثانية، كان الاكراد يقومون بثورات تحررية استمرت حتى اليوم.
الاستاذ محمد عبدالجبار (العراق): ان في العراق ثلاث اكثريات: الاكثرية العربية، مقابل الاقليات الكردية، والتركمانية، والآشورية. وهناك، ثانيا، الاكثرية الاسلامية، مقابل الاقلية المسيحية. وهناك، ثالثا، الاكثرية الشيعية مقابل الاقلية السنية. وأنا، لحسن حظي اولسوئه، اجمع بين هذه الاكثريات. فأنا عربي، مسلم، شيعي!
ولكن، ما هو اهم من هذه الاكثريات وما يقابلها من اقليات، ان ما يجمع بينهما جميعا امر يفوق هذه التوصيات، الكمية، ذلك هو التوصيف النوعي، اعني به كونكم جميعا بشرا، تجمعهم وتوحدهم، الصفة الإنسانية الواحدة. فالإنسان هو المطلق، والعربي، والكردي، والمسلم والمسيحي والشيعي والسني، نسبيات. والنسبي لا يصادر المطلق ولا يحل محله.
كعربي اقول لا يكفي ان نعتذر الى اخواننا الاكراد عما لحقهم من ظلم على يد الحكومات العربية المركزية المتعاقبة في بغداد. وانما يجب ان نسبقهم الى المطالبة بحقوقهم، وضمانها لهم. وتراثنا العربي والاسلامي يعلمنا ان ننصر أخانا ظالما او مظلوما. واخونا الكردي مظلوم بيد عربية، وعليه، يجب ان تمتد يد عربية اخرى لنصرة الاخ الكردي، ورفع الظلم عنه.
وكشيعي اقول يجمعنا مع الاكراد اشتراكنا في المظلومية التي حلت بنا على يد هذه الدولة العراقية المركبة خطأ منذ سبعين سنة.
وكمسلم مؤمن بالمشروع الحضاري الاسلامي، اقول انه ليس في الاسلام ما يسمح بالتمييز والاضطهاد العنصري او القومي.
البشر، في المشروع الحضاري الاسلامي، امة واحدة في الأصل «خلقكم من نفس واحدة». ولكن عوامل تاريخية، مازالت موجودة، جعلت الناس يتوزعون امما وشعوبا وقبائل. وما كان هذا الاختلاف في الألسنة والالوان الا «آيات للعالمين». وليس هذا سببا للتنازع والتصارع والاقتتال بين الشعوب والامم والقبائل: «لا يسخر قوم من قوم».
انما الصحيح هو التعاون والتكافل بينهم: «يا ايها الناس، انا خلقناكم من ذكر وانثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، ان اكرمكم عند الله اتقاكم».
والإنسان، مهما كان دينه اولسانه او عنصره، سيد مصيره السياسي والاجتماعي والديني. فلا اكراه في شيء، حتى في الايمان بالله. ونفي الاكراه المطلق هو الاساس المتين لحق تقرير المصير. وهذا ينطبق على الفرد والمجموعات، والشعوب. فلكل إنسان الحق الكامل في ان يقرر مصيره. وهذا هوجوهر إنسانيته.
ولا يرد على حق تقرير المصير بمقولة وحدة الامة، او وحدة الوطن. مع الايمان بأن الوحدتين مقدستان، ينبغي الحرص عليهما. ولكن هذا لا يعفينا، اولا، من تشخيص آية الوحدة، والعلاقة بينها وبين تقرير المصير، ولا يعفينا ثانيا من رسم المعادلة بين مقدس الوحدة، ومقدس الإنسان.
الاستاذ كامران قره داغي (كردي): كردستان واسرائيل، المقارنة ليست جديدة وحتى في الستينات كان البعض يصف كردستان كخنجر في ظهر العرب. و«اسرائيل» الكبرى تستفيد من اقامة كردستان. عملية السلام تسير في اتجاه نحو الحل، وهذا اي كانت صيغته يقضي بتقليص اسرائيل.
لذلك طرح الموضوع بهذا الشكل يثير الاستغراب. ايضا كيف يمكن لاربعة ملايين يهودي ان يقيموا اسرائيل الكبرى وسط 200 مليون عربي او اكثر. موضوع الاسلام في الحقيقة حساس ودقيق. في رأيي السؤال هو: لماذا يتخوف الاكراد مع مشروعات الحركة الاسلامية؟ الاسلام عموما ليس مجرد دين وانما ايديولوجية ايضا. والايديولوجية كلها مخيفة على رغم من انها تتضمن مبادئ واهدافا سامية وإنسانية ولكن في التطبيق العملي يختلف دائما. الاكراد يركزون على ضمانات. ليس امامنا أية تجربة اسلامية ديمقراطية لكي نقنع الاكراد ان الاسلام سيضمن حقوقهم. تاريخ الدولة الاسلامية اضافة الى جانب الامور المضيئة مليء بالظلم والاضطهاد القومي والطائفي ونشر الدين بالسيف. أنا ككردي أخاف من المشروع الاسلامي. ما جرى في الجزائر انتهاك صريح للديمقراطية وما جرى انتهاك على رغم انني لا اتفق مع جبهة الانقاذ. تثار موضوعات يقال انها من الفكر الغربي واعتبار ان الديمقراطية بدعة غربية وان في الاسلام مفاهيم، وكلمات مثل الجعلية. في تقديري ان المسألة ليست في التمسك بهذه المصطلحات.
الاستاذ هاني الفكيكي (قيادي بعثي سابق): ان الولاء للتقليد والموروث الثقافي اقوى وامنع من صخب وضجيج الشعار السياسي. مفهوم الموالي والاعاجم واهل الذمة ساكن في الثنايا ولاتزال اطروحة الشعوبية بشأن تآمر الدول على العرب ولايزال الحديث عن حق الكردي في تقرير مصيره تفوح منه رائحة المنة والمنحة.
وفي منهج حزب البعث الذي تسلم الحكم العام 1963 كنا نرى في الاكراد مصدر خطر على الامة العربية. الفكر العربي يرى ان هذه القوميات دون مستوى الامة العربية. حتى في الظلم كان الظلم على العربي سياسيا - اقتصاديا فقط ولكن للكردي كان الظلم مركبا قوميا - مذهبيا - اقتصاديا - سياسيا. واذا اردنا الحديث اليوم عن الواقع المعاش، لا بد من البحث عن الاستبداد والتصدي له ومحاربته بشكل علني وواضح وصريح. لقد كان قرار البرلمان الكردي في إعلان الفيدرالية تحديا ورفضا للعقل السياسي العربي الذي يصادر الاقوام الاخرى ويستعبدهم. انني كقومي عربي، اشعر بخوف عميق يشدني الى ارثي الثقافي ويعطل لغة الصراحة. هذا الشعور بتقديري خوف من الحرية ومن غياب الحرية في آن واحد.
البحث في مقدسات الفكر العربي ومحرماته وإعادة النظر فيها مهمة ليست من اختصاص الاخوة الاكراد. بتقديري انها مهمة المثقفين العرب وخصوصا في هذه المرحلة اقترح بسبب ما نلمسه الآن من ردود فعل شديدة ضد حق الشعب الكردي ان يتم التصدي الواضح والصريح لبدء عملية هجوم مضاد على الموروث الثقافي الفكري الذي يحمل في جذوره الاستبداد والاستعباد للشعوب الاخرى.
الدكتور حسن الجلبي: الحوار الذي عقدناه وما حققه هذا الحوار من طموحات منظميه قادر على استيعاب الافكار المتعارضة والمتباينة والتي اعتقد انها خرجت بحصيلة مهمة.
فقد ابرز الحوار ان الغلبة للوحدة التي تصنعها الإرادة المشتركة في العيش والتي يمكن ان يعبر عنها بواسطة استفتاءات وانتخابات شعبية.
الإرادة المشتركة هي وليدة الشرعية الدولية بما استقر عليه الضمير القانوني العالمي من بينها ميثاق الامم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
الافكار التي استمعت اليها التي تقول الاحتكام الى ما قال الغرب وليس الاسلام امر غير جائز. ما احتكمنا إليه ليس ما قاله الغرب وانما من مصادر متعددة. ميثاق الامم المتحدة وافقت عليه الدول الاسلامية وساهم الاسلام في اعداده. والإعلان العالمي لحقوق الانسان هو حصيلة لتعاون وتمازج للاصول الإنسانية والمنابت والمبادئ السامية ومن بينها الاسلام. وفي الحقيقة ان الاسلام هو من اركان الشرعية الدولية الذي تتعاون معه حتى جمهورية إيران الإسلامية. فإن إيران وغيرها من الدول التي تعلن الاسلام منهجا تقبل وتشارك في هذا العصر. ان المعيار في الإرادة المشتركة له من المرونة التي تمكننا من مواكبة التطورات ونستطيع ان نرقى ونتقدم بالإرادة الحرة. لان الواقع أصبح اليوم للعيش المشترك.
ان العيش المشترك لا يمكن فرضه بالغازات الكيمائية او اي ضرب من ضروب القوة، إذا خرجنا بقناعة من هذا القبيل فإننا خرجنا بشكل يسر ويرضي.
منصور الجمري
31 أكتوبر 1992م
نشرت في صحيفة الزمان العراقية 3/8/2014