حقائقنا… كلام في كلام!!!
المونسنيور د. بيوس قاشا
في البدء
من المؤكَّد أن المسيحيين في الشرق هم مكوّن أصيل وليسوا أرقاماً وأعداداً، كما هم جزء لا يتجزأ من هذا الشرق ومن مكوناته. فالمسيحيون أصلاء بوجودهم وليسوا بقايا شعوب، وهويتهم شرقية الوجود، وحضارتهم سامية التاريخ، وديانتهم لا تحمل إلا السلام والخير والمحبة وتتقاسمها مع الشعوب والحضارات المتعددة. فوطنهم واحد، وهم في مجتمع واحد، ويؤمنون بل ويعلمون أن إيمانهم صعب، وممارسته تخيّم عليه ظلمات الفاسدين ومظالم المحسوبين، فهم يرون قسوة الناس بعضهم على بعض. كماهم يعيشون زمن الشهادة والإستشهاد، إذ يرون كنائسهم مهدَّمة وأموالهم مسروقة، وتشتُّت أبنائهم أمام عيونهم يرسم خارطة الضياع في أنحاء العالم، ومع هذا يبقى المسيحيون يؤمنون أن الله ما زال يرسلهم في بلدانهم، ويرافقهم في مسيرة الحياة القاسية، مدركين أن الرب قال:"ستعانون الشدة في العالم، ولكن ثقوا إني قد غلبتُ العالم" (يو33:16) و"فلا تضطرب قلوبكم ولا تفزع" (يو27:14).
وشك المغيب
ما أدركناه أن التضحيات قد تمّت بالإنسان وبشعوب المنطقة ومكونات الأوطان في سبيل مصالح طائفية وأخرى قومية وربما حزبية، ومرّت معظم بلداننا بمرحلة دمار شامل، ومع هذا لا زلنا في تهديد دائم، وهذا ما نراه عبر صراعات مليئة بالحقد والكراهية بإنشائها الخطابي عبر تكفير الآخر المختلف، وقد قالوا عنا يوماً: أن المسلمين المتطرفين هم الذين قتلوا أبناءنا المسيحيين، وغايتهم إقصائهم وإلغائهم من الوجود، وهذا صحيح وظاهر، إنهم متطرفون مسلَّحون، هم الذين قتلوا المسيحيين والمسلمين بسنّتهم وشيعتهم والإيزيديين وكل مَن عارضهم، والقاتل الحقيقي معروف بأهدافه فهو صاحب القرار وحلفاؤه في ديارنا من أجل مشرق جديد وبحسب مصالحه ورؤيته، فهل اليوم نعيش مصيراً جديداً مختاراً من ذوي القرار؟... وما أقساها إزدواجية القرار، ونتيجتها عدم الاستقرار، ولا يمكن أن نستقر إذا لا تستقر حقائقنا.
أجيال رحماء
أمام هذا الواقع الأليم والمخيف نتوقف لنتأمل ونحاسب أنفسنا: أين هو موقعنا؟، أين هي مواقفنا الموحَّدة؟، أين نحن من مسيرة الألم بعد كل الذي عشناه ورأيناه ولمسناه بأعيننا وأيادينا وأفكارنا؟، هل استطعنا أن نبدّل مواقفنا من أجل خير أمّتنا وكنائسنا؟، هل تواضعنا حتى نكران الذات من أجل كلمتنا الموحِّدة والموحَّدة؟، هل أدركنا أن الألم الذي جاءنا وعشنا مراحله المؤلمة ما هو إلا للتآلف بين القلوب، لا فقط كلمات تبجيل واحترام متبادَلَة؟، هل أدركنا أننا نحمل رسالة إلى العالم تحمل الحياة للآخرين، إذ أن رجال المعابد وكبار الزمن عليهم أن يربّوا أجيالاً رحماء لا قتلة أشقياء، وإن المحبة تتجاوز حدود الإنسان لأنه لا حدود لها؟، وتقول رسالة بطاركة الشرق (2018) ألم ندرك جيداً أن الشرق قد إرتوى بدماء آبائنا وأجدادنا حتى الموت؟، ألا يدعونا هذا إلى حاجتنا إلى قيادات ترشدنا إلى طرق الحياة وحقيقة الإيمان والشهادة في مقاومة التفرقة والموت التي لا زالت فاعلة في مجتمعاتنا وإنْ كانت صغيرة، وتعمل في طائفياتنا بنسب أعمارنا؟... إننا بحاجة إلى قيادات تملك القدرة والإحساس بكل آلام الناس، ومنهم نتعلّم أن الآلام ليست للموت بل هي طريق إلى الحياة، فطريق الصليب كان طريقاً من الموت إلى القيامة.
فاجعة ودمار
إن ما حصل في مناطقنا في سهل نينوى خاصة، وما حلّ بأبناء العراق عامة، فاجعة ودمار وتخلّف وفساد. فالعديد في سهل نينوى _ كما في المناطق الأخرى _ تركوا ديارهم ومنازلهم ومناطقهم الأصيلة وحضارتهم التاريخية من أجل الحفاظ على حياتهم بسبب القاعدة وأزلامها، ثم داعش وإرهابه، والميليشيات وأفرادها، والدستور وأبوابه. فالهدف واحد وإنْ تعددت المسارات، والتقصير تجاه الشعب ومكوِّناته أكيد، فهي في هذا تواجه خطر الإنقراض إضافة إلى التهميش والإقصاء في كثير من الأمور وفي وضع مهلهل ومستباح، وبأيادي تفكر عشوائياً ولا تدرك جيداً حرصها إلا على المصلحة الخاصة والكبريائية، ناسية أن المصلحة يجب أن تكون من أجل الوطن والشعب ومكوِّناته، وبعد أن أدركنا أن داعش على وشك المغيب، وقد أنهى مهمته في تدمير ما رُسم له، وقد أكمل ما طُلب منه، وأعماله الإجرامية تركت آثاراً مؤلمة وعميقة في نفوس شعبنا، تركت نزعة تكفيرية بحقنا، ومقاتلتنا بأية طريقة كانت، وأصبحنا ضحايا لسياسات فاسدة ولفتاوى متعددة، وهذا ما زال يعكّر صفو عيشنا، وفي هذا نسأل أنفسنا هل نبقى أم نرحل؟.
تربية جديدة
نعم، نحن بحاجة إلى تربية جديدة لأجيالنا الصاعدة من أجل إنسان جديد يحمل عبء الحياة بروح المحبة، وعلى قواعد المساواة والكرامة التي منحنا إياها رب السماء. فكلنا مسؤولون أمام الله وأمام الضمير الحي، فالدولة مسؤولة، والكنيسة مسؤولة، والمسجد مسؤول، وكلنا كرجال معابد _ ومن أي معبد كنّا _ مسؤولون لكي نبني وطناً للجميع وفوق الجميع، حيث ولحد الآن هناك تفرقة وتفضيل مواطن على آخر بسبب دينه أو قوميته أو طائفته، وما زال حتى الساعة تكفير واضطهاد وفساد، خفيّاً كان أم ظاهراً. فما نحتاجه أن نجعل من الدين طريقاً يوحدّنا وليس مسلكاً يفرّقنا، فالمختلف مهما كان دينه أو عقيدته أو لونه هو أخ لنا، وكل أبناء الوطن هم إخوة. فأنتَ أولاً إنسان وخليقة السماء، وفي هذا الصدد يقول الإمام علي "إنْ لم يكن أخوك في الدين فهو نظير لك في الخلقة"، وهذه التربية توصينا بمحبة المسيح لناإذ يقول "أحبوا بعضكم بعضاً" (يو34:13) و"أحبب قريبك مثل نفسك" (يو15:12 وغلا14:5)، والقريب هو كل إنسان.
في الختام
نعم، نحن أصبحنا اليوم نعيش تحدّياً نواجهه معاً، والخوف لا زال يملك على صدورنا، فما نحتاجه اليوم هو مسيرة إنسانية وطنية ودينية، مبنية على أساس أن كل إنسان هو خليقة الله الواحد الأحد، كما على كبار زمننا ورجال معابدنا أن يكون لهم الدور الرئيسي في معالجة أسباب الفكر الديني المتطرف في تجديد الخطاب من أجل إنسان جديد، وروح مشاركة، وإشاعة روحانية المودّة واحترام التعددية الدينية، وقبول الآخر المختلف بفكره وعقيدته، ونبذ الطائفية المقيتة والمحسوبية المزيّفة، والعشائرية القاتلة، فواقعنا يطلب منّا حواراً وقبولاً متبادلاً وباباً مفتوحاً أمام الجميع وللجميع، يسمع من الجميع، غرباء كانوا أم أقرباء، وإن كانت هناك تيارات دينية مناقضة لا تقبل التعاون والمساواة بين مؤمني الديانات المختلفة بل حتى من الديانات المشتركة بكتبها وايمانها. فشرقنا يجب أن نجدّده نحن لا غيرنا، ولا يكون بتبديل حدوده أو ديموغرافيته أو شعوبه، بل ننظر إلى القلوب، فالشرق بأهله، وأهل الشرق لشرقهم، كلهم متساوون ولا أحد يفرض سيطرته على الآخر، وبهذا نبني وطناً وأجيالاً ورسالةً. إنها رسالتنا، إنها حقيقتنا، أكيداً إنها حقائقنا، وفي هذا السراط تكمن الحقيقة، وأرجو أن لا تكون كلام في كلام، ولكن إيماني يقول: أنه مهما قيل فالنهاية لتشييع الحقيقة، ولدفنها، وتبقى الدنيا وحقائقنا كلام في كلام ليس إلا!!... نعم وآمين.