برسم حكومة العبادي
أنهى نوري المالكي الجدل والنقاش القانوني والسياسي حول ترشّحه لولاية ثالثة عندما أعلن انسحابه وانضمامه إلى ترشيح الدكتور حيدر العبادي رئيساً للوزراء الذي تم اختياره من كتلة التحالف الوطني، وحظي على الفور بتأييد كردي، ومن القوائم السنّية والشيعية على حد سواء، بما فيها من حزب الدعوة الذي لا يزال المالكي يرأسه، وتلك ظاهرة ليست مألوفة في السياسة العراقية، لولا شعور الجميع بالحاجة إلى عدم تجديد الولاية الثالثة للمالكي، بغض النظر عن الاستحقاقات الانتخابية والدستورية .
وعلى الرغم من أن تغيير الوجوه لا يكفي وحده، إن لم يرافقه تغيير شامل للبرامج والمناهج والسياسات والوسائل للوصول إلى ما هو مشترك وما هو عراقي، فإن مثل هذا التغيير الأولي الذي حظي بترحيب كبير عربياً وخليجياً، قد يكون مقدمة لشراكة حقيقية، خارج دائرة الطائفة أو العنصر أو الجماعة أو الحزب، فالعراق الذي وقع تحت الاحتلال العام 2003 نزف الكثير من الجهد والمال والبشر، بسبب سياسات عقيمة، استمرت الدولة العراقية تدور في فلكها على نحو أعمى .
التركة التي وصلت إلى رئيس الوزراء المكلّف العبادي معقدة وقاسية وتحتاج إلى عمل وجهد استثنائيين للفكاك من شرنقتها، خصوصاً ما وصلت إليه البلاد من تفكك وتشظ، لعلّ آخرها وأخطرها هجمة "داعش" التي أعلنت الخلافة وطلبت من الجميع الولاء والبيعة، بمن فيهم المسيحيون والإيزيديون والشبك، الذين قتلوا وهجّروا بدم بارد من مناطق سكناهم في الموصل وسنجار، كما هجّر التركمان من مدينة تلعفر وغيرها، ولم يكتف الداعشيون بذلك، بل أجهزوا على الكنائس والأديرة والمساجد والجوامع والمعابد وقاموا بتفجير العديد منها ونسفها عن بكرة أبيها، وهي تراث عراقي وعالمي أصيل لا يقدّر بثمن، خصوصاً جامع النبي سليمان ومسجد النبي يونس في الموصل، ومعبد لالش في جبل سنجار وغيرها .
ليس هذا فحسب، بل إن التركة كانت شائكة في تكريس الانقسام المجتمعي السني- الشيعي، لدرجة أن العديد من المحافظات احتجت وطالبت بإنصافها ورفع الغبن عنها، وهي محافظات ذات أغلبية سكانية سنية، كما شهدت البلاد انقساماً كردياً عربياً، تجلّى بتفسير المادة 140 وحول مصير كركوك وحقول النفط التي تم وضع البيشمركة اليد عليها بعد تهديدات "داعش"، وما ستؤول إليه المشكلات والاختلافات مع الدولة الاتحادية بخصوص الميزانية وتصدير النفط وغير ذلك، وكان الإصرار على ترشيح "دولة القانون" للمالكي قد عمّق الخلافات داخل كتلة التحالف الوطني الشيعية، على الرغم من أن الجميع ظلّ يلوّح برأي المرجعية الدينية الشيعية التي كانت خطب الجمعة الوعظية والإرشادية فيها تدعو إلى التغيير وعدم التشبث بالمواقع .
أمام هذه اللوحة المعقدة، كيف يمكن لرئيس وزراء جديد أن يبدأ أولى خطواته ويحدد أولوياته التي، كما نعتقد، تتعلق بتشكيل حكومة وحدة وطنية لمواجهة الإرهاب وحل المشكلات العالقة بتلبية المطالب العادلة والمشروعة للمحافظات المنتفضة، مثلما هي الأنبار وصلاح الدين والموصل وديالى وكركوك وأطراف بغداد، إضافة إلى مطالب المحافظات الأخرى، ذات الطبيعة التي تتعلق بالصلاحيات والخدمات ومحاربة الفساد والمساواة وغير ذلك .
ولعلّ أهم الملفّات الأساسية التي ستكون مطروحة أمام الحكومة الجديدة هي تلك التي تتعلق:
1- استعادة الهوّية الوطنية العراقية التي جرى طمسها منذ سنوات ما بعد الاحتلال، وهذا يعني العمل لردّ الاعتبار للمواطنة العراقية المتساوية ومن دون تمييز بسبب الطائفة أو الدين أو العرق أو الجنس أو الوضع الاجتماعي أو لأية اعتبارات أخرى .
2- التوجّه لوضع حدّ لنظام المحاصصة الطائفي- الإثني، والانفتاح على الكفاءات العراقية، خارج نطاق الدوائر السياسية الطائفية- الإثنية . وإذا جاءت الحكومة لتمثل تكنوقراط عراقيين عابرين للاصطفافات التي عرفها العراق بعد العام ،2003 فإنها ستكون قد وضعت اللبنة الأولى لتصحيح مسار العملية السياسية، وإذا ما ترافقت في المرحلة الثانية بتعديل الدستور وإزالة الألغام الكثيرة التي احتواها وتأكيد مبادئ المواطنة والمساواة، فإنها تكون قد بلورت أسساً جديدة للمعادلة السياسية العراقية .
3- مواجهة الجماعات الإرهابية، سواء كانت القاعدة أو تنظيمات "داعش"، واستعادة الدولة العراقية الموحدة، ولا بدّ هنا من العمل على نزع سلاح جميع المسلحين وكل الميليشيات، والتي عملت وتعمل باسم "الحشد الشعبي" أو غيره، واحتكار السلاح من جانب الدولة وحدها . وهذا يتطلّب استعادة دور الجيش ومكانته الرمزية تاريخياً، وكذلك الأجهزة الأمنية، وردّ الاعتبار للقضاء العراقي الذي فقد الكثير من استقلاليته، وستوفّر خطوات مثل تلك، أرضية مناسبة لاستعادة الدولة لهيبتها، واستعادة المواطن لثقته بها وبالأجهزة الحكومية والقضائية .
4- العمل على إلغاء التهميش والإقصاء وإنهاء الشعور الخاص بالتمييز الذي رافق العملية السياسية إزاء السنّة بشكل عام، وذلك عن طريق تشريع قانون لتحريم الطائفية وتعزيز المواطنة العراقية، كما يتطلب الأمر إصدار قرار من مجلس النواب بإلغاء قانون المساءلة والعدالة، وهو سليل قانون اجتثاث البعث الذي أصدره بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق بُعيد تسلّمه مهامه مباشرة في 13 مايو/أيار العام 2003 .
5- معالجة الملف الكردي من خلال الحوار والتفاهم بهدف استعادة الوحدة العراقية وبحث مصير المادة 140 بشأن كركوك وإنجاز ما تعطّل بسببها وتصحيح الأوضاع بحيث تشمل رغبة حقيقية للسكان المدنيين من أهالي كركوك واحترام حقوقهم الإنسانية، سواء بالانضمام إلى الإقليم أو تشكيل إقليم مستقل أو البقاء كما هي محافظة عراقية في إطار الدولة الاتحادية، وفي كل الأحوال لا بدّ من حماية التعايش السلمي والتنوّع القومي والديني والإثني والمذهبي والاجتماعي في كركوك، ومراعاة حساسية المدينة تاريخياً، بتأكيد عدم التمييز واحترام حقوق الإنسان وعدم اللجوء إلى التهجير القسري تحت أي سبب كان، والأمر يحتاج إلى معالجة ما نجم من تغييرات ديموغرافية قبل العام 2003 وما بعده، ومن تغييرات جيبوليتيكية ما بعد 9 يونيو/حزيران ،2014 سواء ما يتعلق بحقول نفط كركوك، وما له علاقة أيضاً بتصدير النفط، في إطار نظرة شاملة تأخذ في الاعتبار مصالح العراق ككل ومصالح سكان الإقليم في الوقت نفسه، ومصالح أهالي كركوك بشكل خاص .
6- إعادة العراق إلى محيطه العربي، واستعادة العرب للعراق، ونعتقد أن مباركة دول الخليج ولاسيّما المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، فضلاً عن بقية الدول العربية، التغيير الذي حصل وترحيبهم بحكومة العبادي، يمكن استثماره إيجابياً باتفاقيات اقتصادية وتجارية وأمنية (لمكافحة الإرهاب) والتشجيع على تعزيز العلاقات الثقافية والفنية والاجتماعية، بما يعيد للعراق دوره الكبير ومكانه التاريخي، وفي الوقت نفسه يعيد العرب إلى العراق باعتباره شقيقاً فاعلاً ومؤثراً في الساحة السياسية والإقليمية، يمكن أن يلعب دوره المنشود سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً .
إن التسوية الأمريكية- الإيرانية التي حظيت، بقبول عراقي وعربي وإقليمي، من خلال التوافق، يمكن أن تنعكس على الدور الذي يمكن للعراق أن يلعبه في إطار العلاقة العربية والخليجية - الإيرانية، سواء في موضوع الملف النووي أو غيره، ولا شك في أن عراقاً قوياً بمواطنيه واستقراره ورفاه مجتمعه، يمكن أن يكون عنصر توازن بين الخليج من جهة، وإيران من جهة ثانية، كابحاً لبعض الأطماع، ومثل هذا الدور المتوازن يحتاج إلى استعادة العراق لخاصيته العربية، مثلما يحتاج إلى دعم عربي وخليجي
للتوافق مع المحيط الإقليمي، والدور ينطبق أيضاً على علاقاته مع تركيا .
هذه الملفات والاستحقاقات هي برسم حكومة العبادي الذي يحتاج إلى برنامج جديد يتجاوز آثار الماضي السلبية، ومنهج جديد، وأساليب جديدة، تضع الهدف والوسيلة في إطار منسجم ومشترك وموحّد .
صحيفة الخليج الاماراتية، الاربعاء 27/8/2014