الهجرة وانعكاساتها على الداخل
الأحداث ما زالت في بلدنا مُتأرجحة ومُتقلبة ومن حال إلى آخر أدنى مستوى، بما فيها الهجرة التي ما زالت مستمرة بشكل يثير القلق! هذه الهجرة المتدفقة إلى المجهول تأثيراتها عديدة الجوانب تطال البلد المهاجر منها وإليهِ على السواء، كما وتعتبر المصدر الوحيد للتغيير السكاني الذي بدوره يؤثر على البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
الهجرة دائمًا نتحدث عنها ونبحث عن أسبابها ولابدّ من هذا لأنها ظاهرة خطيرة تغزو البلاد التي فيها من التشتت والتمزق والتهميش والضياع الكثير، لتزيد من ألم الجراح وتبقيها على حالها بدون علاج! وهي ليست ظاهرة بجديدة في بلدنا العراق، كانت موجودة من قبل ولكنها ليست مثلما هي اليوم مُتزايدة بشكل كبير، دوافعها على أختلاف الزمن هي التي اختلفت وأصبحت غريبة ومُثيرة للقلق وللخوف، بسبب تزايد أعدادها وأشكالها وأسبابها وتداعياتها بحيث باتتْ تشكل خطرًا يُهددّ الوجود السكاني في أراضيهم من الزوال والاضمحلال ثم الاختفاء المُفاجئ!
وربما قائل سيقول من خارج مُحيط الأحداث أن الحياة مُستمرة في المدارس والجامعات وأماكن العمل، وهنالك بعض التغيرات العمرانية، مع أقامة بعض المراكز الخدمية في بعض المناطق، وربما لا يوجد ما يثير كل هذا القلق في النفوس والهجرة منهُ؟! نعم الحياة مُستمرة وهناك بعض التغيير الطفيف الحاصل، ولكن هنالك ما يُرافقها بشكل خافيّ وهو الخوف من المخفيّ المُمكن أن يحصل في أية لحظة وعلى غفلة، فلم يعد هنالك أمان ومسؤولية وضوابط توضع لكي تكون هي الضابطة لكل حدثًا! تلك وحدة المصير والعيش المشترك والتلاحم الأخوي بين مُختلف الأطياف، أصبحت تضمحل تدريجيًا وتلغي في قاموس الكثيرين كون ذلك العام أصبح خاصًا، وهذا الخاص أصبح خاصًا لذاتهِ!
نعم هذا هو واقع الحال، وهذا هو الحاصل وهذا ما آلت إليه الأمور، وهذه الهجرة الخطيرة باتتْ تشكل نقمةٍ ونعمةٍ! لأنها شملت هجرة الشباب بُنيان المستقبل وهجرة الخبرات والمهارات والمثقفين وخيرة العقول والكفاءات من أطباء وأساتذة وعلماء ...الخ. باتتْ خطر يهدد اللغة والهوية والتواجد والأصالة والتراث، وباب يدخل منهُ من يشاء جالبًا معهُ زوابعّهِ وأعاصيرهِ تعصف بما يصادفها، متى تشاء وكيفما تريد! وهذه الهجرة هي للبعض رحمة لتحقيق ما يرمون إليهِ، طبعًا لأنهُ كلما قلّ عدد الجالسين على مائدة الطعام شبع الحاضرين الباقين وفاضّ عنهم! ومن جانب آخر هي نقمة للمُهاجر نفسهُ لأن ما ينتظره خارج بلده من مجهول أسوء بكثير مما شهدهُ في بلده من ضياع وتشتت وغربة وحاجة.
نقول للأسف ذاك البيت ما زال يُفرغ من أناسهِ فردًا بعد فرد بين الحين والآخر وبصورة مُتوالية! ترى ما الحل لهُ وكيف يمكن أخبارهم أن أرض أجدادهم بحاجة إليهم، بحاجة إلى يدٍّ تُغرس في أعماقها لتُبقيها خضراء وتُخرج منها أطيب الثمار؟! كيف السبيل إلى إقناع الأبناء أن آباءهم بحاجة إليهم في كهولتهم؟! كيف يمكن أخبار الأبناء (أرث الأجداد) بأن أرثكم من أجدادكم سوف يُسلب ويُنهب ويُعطي للغير في غيابكم عنهُ، وستأتون يومًا للديار ولنْ تجدوا من يفتح لكم بابًا أو تدخلوا أرضًا كانت في يومًا من الأيام تُدعى وطني وتربتي وأمي وبستاني!
هذا ما تفعلهُ الظروف السيئة التي تمطر بلدًا، وهذا ما تفعله الهجرة المُتواصلة وهذا ما يفعله البعد والفراق عن الديار وهذا ما تفعلهُ الحروب والنزاعات المُتتالية وسقف المصالح واضطراباتها، لكن بالنسبة للمُهاجر ما باليد حيلة عندما تضيق الأفق أمامهُ وتتدنىّ سبّل العيش ويفقد الأمل والأمان، فما يكون منهم غير الرحيل بعيدًا إلى مكان أكثر دفئًا وأمانًا واستقرارًا وفيهِ من ضرورات الحياة مُتوفرة والحقوق مُصانة والكرامات محفوظة ولا تُداسّ!
يبقى أن نقول بأنه يجب وضع هذه الظاهرة في الاعتبار ولابد من تضييق الحدود عليها قدر المُستطاع وقطع الطرق عنها، لأنها وأن استمرت بشكلها هذا سوف تضحى الديار فارغة مُستقبلا وسوف يعطي المجال والحرية للعاصفة الصفراء أن تغزو قُرانا رويدًا رويدًا وتُغير من معالمها لكي تضيع ملامحها ولا تُعرف فيما بعد وتصبح غريبة ومشوهة. وهذا لنْ يتم ألا من الشباب قوة المجتمعات أنفسهم، وإقناعهم بهذا من ذاتهم، وهذا في زاوية ما بصراحة صعب الحدوث نوعًا ما لأنهُ مثلما قلنا الظرف هو من يحكم ويرغب ويريد كما أن للانفتاح والثقافات الجديدة دورها الفعال والشامل في هذا!
والهجرة وإن استمرت بشكلها هذا فهي ضربة قاضية مُوجهة لصميم وجود ومستقبل أرض، فلابد من أيجاد نظرة مُوحدة ومُتكاملة وجدية تنظر للحياة البشرية واحترامها بروح الانفتاح والمشاركة الجماعية دون اعتبار لأية خلفية أو خاصية من أجل أرض واحدة تجمعها لغة وثقافة وكيان واحدٍ مُوحدٍ.