النجف في الجامعة اليسوعية
حين استضافتني الجامعة اليسوعية (جامعة القديس يوسف) في بيروت لإلقاء محاضرة على طلبة الماجستير في معهد الدراسات الإسلامية- المسيحية، فضّلت أن أتحدث عن أحد المراكز الحضارية التاريخية للمسلمين، وفوجئ مقدّمي والبروفسور سامي خليفة، باختياري للموضوع، كما فوجئ الدارسون بالحديث عن مدينة أو منطقة جغرافية لها سمة دينية تكاد تكون واحدة، في حين أن الموضوع المطلوب الحديث فيه التعايش والمشترك الإنساني إنطلاقاً من تجربة حياتية. وقد عرّف الطلبة بأنفسهم، فهم من بلدان وأصول مختلفة بينهم من أصل فرنسي أو أمريكي أو سويدي أو عرب من جنسيات مختلفة، الأمر الذي كان الحديث عن التنوّع الثقافي والتعايش الإنساني مسألة مثيرة، خصوصاً وقد أتيت على الوجه الآخر، للمدنية الدينية، وهو جانب يكاد يكون غائباً، أو غير معروف عادة في الحديث عنها.
وأصل الحكاية تعود إلى أن البروفسور أنطوان مسرّة، سبق أن طلب مني الحديث عن تجربتي الحياتية في الحوار والمشترك الإنساني، وكان لقاؤنا في فيينا لحضور مؤتمر عن حوار الثقافات والديانات، الذي نظّمه مركز الملك عبدالله وبتعاون عربي سعودي، إضافة إلى مشاركة فاعلة نمساوية وإسبانية ودعم من الفاتيكان وبحضور متميّز لشخصيات فكرية وثقافية ودينية وإعلامية وسياسية، بينها من احتل مراكز رسمية، وقد أخبرته بحديث ودي وحوار معرفي دار بيني وبين جهاد الزين الكاتب والصحافي في صحيفة النهار والدكتور حامد الحمود من الكويت، حول دور النجف كمدينة ومركز ثقافي.
وحينما قلت أن للنجف وجهين استغربا، وتوغلت في ذكر وجهها الآخر الثقافي والأدبي والإنساني، الذي يشكّل رافعة بارزة، إضافة إلى رافعتها الدينية، زادا تشوقاً ومضت القصة إلى نهايتها، حين دعيت لحضور مؤتمر مجلة العربي السنوي في الكويت، فاستضافتني جمعية التنوير، لإلقاء محاضرة بعنوان ” النجف الوجه الآخر”. الأمر لا يخلو من مفارقات وتناقضات متداخلة ومتعانقة لجوار الأضداد حيث التنوّع والدينامية في مجتمع شكله الظاهري من الخارج ساكن ومحافظ، وجوهره الداخلي حيوي ومتحرّك، بل يبحث عن الآخر أحياناً للتواصل والتفاعل معه، ويجد متعته في التكامل، وهو ما دعا السيد مصطفى جمال الدين إلى القول عن تجربته في النجف التي جاءها للدراسة في مدرستها الأكاديمية وهو ابن الحادية عشر ” الفكر المنفتح في المجتمع المنغلق”، كما يقول في ” الديوان”، فالبيئة الثقافية والفكرية والدينية محرّضة على الجدل وهي تجمع بين الشفاهية والتدوينية، وعلى قدر اهتمامها بالوثيقة والكتاب والمطبوع، فهي تتناقل الأحاديث والقصص والأشعار والأقوال المأثورة، وكأنها زاد يومي.
هكذا بدأت محاضرتي في الجامعة اليسوعية فتحدث عن الوجه الآخر للمدنية ورؤيتها للمشترك، ولاسيّما هي مدينة ملحمية، يجتمع فيها الأبطال والضحايا، أحياناً، ويتناوب فيها المعلن والمستتر، والمنظور والمتخيّل، والحلم والواقع، والحضور والغياب، على نحو فيه الكثير من التناسق والتناظرية الشفيفة.
وبقدر قسوتها وصلابتها لقربها من طرف الصحراء فهي قريبة من الحميمية أيضاً بحكم تواصلها ومركزها الديني والثقافي والتجاري والسياحي واستقبالها الزائرين والوافدين إليها وتعايشهم معها وفيها. ولعلّ متعتين كبيرتين ظلتا ملازمتين لها، وهما العقل وما يستنبطه من حوار وجدل وكتب ومكتبات والشعر كجزء من الأدب والثقافة حيث لا مكان للتقوقع أو الأحادية، وكلاهما يحمل معنى التناقض في سلوكها، فهي مع الإيمان ومع التمرد وتريد السلطة وتخشاها، وطابعها العام عروبي- إسلامي، لكنها تستقبل الكثير من الأقوام والثقافات واللغات، وتحاول جمعها في إطار هارموني موحِّد، في دراسة تمتد أصولها إلى أكثر من ألف عام في معهد مفتوح ومتواصل، جامعهما الأساسي “الإنسانية” بغض النظر عن الجغرافيا والجنسية واللغة والأصل القومي والانحـدار المذهبي.
لذلك أقول أن النجف لا يمكن حصرها بقالب واحد أو مجموعة سياسية أو فئة أو حتى طائفة، هي مدينة التعايش التي يلتقي فيها الإسلامي والقومي واليساري جنباً إلى جنب، كما يلتقي فيها المجدد والمحافظ، والمتديّن والعلماني، والمؤمن وغير المؤمن، سواءً من أبنائها أو من الدارسين فيها، ولا يجد المرء غضاضة في هذا التعايش الفيسفسائي، المختلف والمؤتلف في الآن، ففيها تتعدّد الوجوه مثلما تتوحد، وتتجمعن مثلما تنفردن على حد تعبير أدونيس، أي تحافظ على شموليتها مثل محافظتها على خصوصيتها في الآن ذاته، وعرفت حوزتها العلمية جدلاً ونقاشاًَ وسجالاً للتغيير والتجديد وتعايشاً وصراعاً بين النقل والعقل وانتقالات من التيار التبشيري الإيماني العقيدي، إلى التيار التساؤلي الجدلي العقلي.
هي المدينة الإسلامية الرابعة بعد مكة والمدينة والقدس، فإضافة إلى الأزهر الشريف (القاهرة) والقيروان (فاس) والزيتونة (تونس)، هناك النجف الأشرف أيضاً، وهي امتداد لمدرسة الكوفة مقابل مدرسة البصرة. ولأن النجف مدينة وافدين وسوق مشتركة ومدينة جامعية ومكتبة مفتوحة، فقد أصبحت مدينة منفتحة ومنبراً للحوار والتعايش والتفاعل والتواصل مع الآخر.
وقاد التنوّع إلى التعايش القومي والتآخي الأممي والتفاهم اللغوي فتجد من يتحدث الفارسية والتركية والأفغانية والأردو إضافة إلى لغات أخرى ، وظلّ اتقان اللغة العربية أساساً لا غنى عنه للتقدّم في إطار الحوزة العلمية التي مضى على تأسيسها نحو 1000 عام.
وبقدر ما تعتبر النجف مدينة حياة فهي مدينة ” أموات” حيث يوجد فيها أكبر مقبرة في العالم، المعروفة بمقبرة “الغري”، وتستقبل الجنائز من مختلف أنحاء العالم لتدفن في مقبرتها حيث التواصل والاختلاط، ولأنها تخرّج العمائم من طلبة الحوزة العلمية، وهو ما جمعها الشاعر أحمد الصافي النجفي بالقول:
صادرات بلدتي عمائم
وواردات بلدتي جنائز
وكان الشاعر الجواهري ابنها أيضاً من قال فيها متمرداً داعياً لتعليم المرأة:
علّموها فقد كفاكم شناراً
وكفاها أن تحسب العلم عارا
وعن بعض خصائصها الشخصية في حب الزعامة الدينية قال فيها الشاعر علي الشرقي
بلدي رؤوس كلّها
أرأيت مزرعة البصل
في القرن الثامن عشر كان عدد سكانها لا يزيد عن 30 ألف نسمة، لكن هناك من أحصى عدد شعرائها حينذاك، فلاحظ بينهم 200 شاعر مميّز وهي ظاهرة فريدة، ففي أحلك فترات الظلام كانت النجف تسير تحت ضوء المعرفة والرغبة في التجديد.
في مطلع القرن العشرين شهدت انقساماً حاداً بين المشروطة والمستبدّة ومن وحيها صدر لاحقاً كتاب ” تنبيه الأمة وتنزيه الملّة” للشيخ حسين النائيني، وكانت تقرأ الصحف والمجلات التي تصدر في القاهرة وبيروت، وكان لعالم الدين هبة الله الشهرستاني دور مميز حينذاك في نشر الجديد من الاكتشافات العلمية ونقل أخبار الاختراعات.
وحين استشارت الدولة العثمانية بعض رجال الدين بشأن تداول كتاب داروين ” أصل الأنواع″ لمترجمه الاشتراكي شبلي شميّل فوافقوا على تداوله، على أن يسمح لهم بالرد عليه، وقد جاء الرد الأول من الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء غير المباشر ضمن كتابه ” الدين والإسلام”. وردّ عليه أيضاً محمد رضا الأصفهاني في كتاب ” نقد فلسفة داروين” مبرّراً ذلك بأن دفاعه عن الدين مقابل اللادين المحض.
ليس هذا فحسب، بل إن علي الشرقي الشاعر والوزير كان قد كتب قصيدة يرثي فيها ضحايا الباخرة تايتانيك بعد أيام من حدوث الفاجعة ويقول فيها:
أسيدة البواخر عنك تُفدى/لو اكتفيت الرَّزية بالمسودِ..
كما نشر الشيخ محمد رضا الشبيبي قصيدته عنها في نفس العام 1912 يقول فيها:
يا بابل البحر الخضمّ سحرتنا / سحراً أرى هاروت في تايتنيك
زعموا ضللتِ لو أردت هداية/ كان المحيط بنفسه هاديك
وفي العام 1922 عندما زار المفكر اللبناني أمين الريحاني كربلاء لمشاهدة “دراما ” المواكب الحسينية بمناسبة عاشوراء، والتقاه الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، ودعاه لزيارة النجف وهو المسيحي المتجنّس بالجنسية الأمريكية، وفعلاً زارها وحضر مجالسها، وأُهديت له مخطوطات احتفاء بقدومه وقابل فيها علمائها مثل الشيخ محمد رضا الشبيبي والشيخ محمد السماوي والشيخ جواد الجزائري وغيرهم وفي وقت لاحق كتب كاشف الغطاء كتابين عن الريحاني، كما نظم الجواهري يومها قصيدة ترحيبية بقدومه يقول في مطلعها:
أرضُ العراق سعت لها لبنانُ/ فتعانق الإنجيل والقرآنُ
ولعلّ ذلك دليل تسامح وقبول بالآخر بل وإقرار في حقه ، حتى وإن كان المظهر السائد في المدينة يميل إلى المحافظة أو التقليدية، لكن الرغبة في التواصل مع الآخر والمشترك الإنساني كانت هي السائدة.
وكنتُ قد ألقيت شهادة مؤخراً في النجف في اتحاد الأدباء والكتاب عن العلاقة مع الآخر، وهي بعنوان ” حكاية الحوار العربي- الكردي”، وتلك مسألة أخرى وعْدتُ طلبة الدراسات العليا في الجامعة اليسوعية بتقديمها في الموسم الدراسي الثاني، أقول ذلك جزء من التاريخ، حتى إن كان الحاضر ملتبساً، حيث دخلت السياسة على الدين، في مسعى للتمذهب، لا يجمعه جامع مع قيم التسامح التي دأبت عليها المدينة بوجهيها الديني والعلماني.
باحث ومفكر عربي
صحيفة الزمان العراقية ، الاثنين 20/1/2014