المكب العشائري
في مقاله الأسبوعي في صحيفة الوطن العمانية
الجمعة 23/10/2015
هي الحماقة بعينها أن يعلن طائر ما انقطاعه عن البيادر واللجوء إلى زوايا مجردة من أية فرصة حقيقية يجعلها ملاذًا لحياته، وكذلك الحال بالنسبة لعراقيين يضعون الانتماء العشائري والمناطقي بديلا لحاضنتهم الوطنية.
لقد دأب هؤلاء العراقيون على ترديد عبارة (من أي عمام أنت) عندما يلتقون لأول مرة، ويكون هناك حديث بينهم عن الانتماءات للتعارف، غير أن بعض العراقيين يحجمون عن الإفصاح بانتمائهم القبلي لأسباب تتعلق بقناعاتهم أن هذا الانتماء فيه تصغير لوجودهم، وهكذا تجدهم يقولون (نحن عراقيون) وهذا يكفينا شرفًا، وهناك أيضًا عراقيون يمتنعون عن الإفصاح بانتمائهم القبلي خشية أن تكون هذه العشائر التي ينتمون إليها على خلاف مع عشائر أخرى، وقد يؤدي ذلك إلى مشكلة خاصة إذا كان بين تلك العشائر خصومات حادة، وعمومًا تظل عبارة من أي عمام أنت مجالًا للافتخار وادعاء المحسوبية العالية، وعرضا لأرصدة شرف ونخوة ونبل قد تكون موجودة في هذه العشائر التي ينتمون إليها، ولكنها غير موجودة فيهم، ثم إن هذه العبارة كثيرًا ما تكون طريقًا في اللجوء إلى انتماء قبلي يخص إحدى الشخصيات السياسية أو صاحبة نفوذ اقتصادي أو اجتماعي كبيرين.
لقد راجت هذه العبارة وتروج في الوقت الحاضر ضمن أسئلة واستفسارات للحصول على جاه معين، بل إن ذلك أيضًا قد يدفع للمراجعة أو التودد بين المواطنين على أساس القربى العشائرية، وبذلك يتوهمون أن لديهم حصانة بالحماية كونهم ينتمون إلى عشائر قوية وصاحبة نفوذ.
إن التعكز على مفهوم (من أي عمام أنت) يكشف بالدلالة الواضحة أكثر من مأخذ واحد، المأخذ الأول: إن التكوين الاجتماعي للمواطن العراقي ما زال يستند إلى انتمائه العشائري بالرغم من المتغيرات الكثيرة التي حصلت في بنية المجتمع، وهذا يعني أن المتغير المطلوب لوجود شخصية عراقية بانتماء وطني بعيدة عن التقوقع ضمن سياج العشيرة الواحدة ما زال بعيد الحصول.
المأخذ الثاني: إن هذا المفهوم يكشف أيضًا عن وجود ضعف ما زال متمترسًا داخل الشخصية العراقية وقد التفت إلى ذلك الباحث السيسولوجي الراحل الدكتور علي الوردي في أكثر من مؤلف واحد بشأن ازدواجية الشخصية العراقية رغم تحفظي على بعض آرائه التي لا تخرج عن كونها وجهات نظر فحسب.
إن هذا الضعف هو واحد من الأسباب التي لا يمكن بأي حال من الأحوال التكيف معه إذا أريد للمجتمع العراقي أن يعيد تشكيل هويته على الأساس التاريخي والمستقبلي، يضاف إلى ذلك أيضًا أن التعكز على الانتماء العشائري بكل ما فيه من مفاخر وأصول، يجعل من هذا المنهج وسيلة انقطاع عن الهوية الحضارية التي يتميز بها العراق.
المأخذ الثالث: إن الشخصية العراقية بهذا الانزواء داخل سياج العشيرة يعطل لديه الكثير من فرص الانفتاح على الآخرين، وهذا بحد ذاته أحد أسباب استمرار ظاهرة التشرذم والتنابز والتنافر في المشهد السياسي، بل إنني أستطيع أن أجزم أن أحد أسباب عدم استطاعة العراقيين الخروج من دائرة الخصومات الأمنية والمناطقية والطائفية القائمة يكمن في هذا المجال المغلق من الانتماءات العشائرية.
المأخذ الرابع: إن مفهوم (من أي عمام أنت) يمثل مجالًا للريبة والشكوك والعكس أيضًا حينما تكون المعرفة بين عراقيين اثنين جاءت نتيجة مشكلة حصلت بينهم، وهكذا يحل التهديد والوعيد بدل الوصول إلى فهم مشترك حقيقي يزيح عن كاهل الجانبين الضغينة الذي حصلت بينهما.
الخلاصة من ذلك، أن من الواجب إذا أردنا التغيير في العراق على أساس وحدة الوطن ووحدة انتماء الفرد لوطنه وليس لقبيلته فإن من الأخلاقي والمنطقي أن نعيد إشهار هويتنا على أساس العراق الواحد.
إن أهم أولوية للعراقيين إذا أرادوا فعلًا الخلاصة مما هم فيه من أوضاع أمنية وسياسية واقتصادية مزرية أن يكون حدودهم الوطن، وليس العشيرة، أو المنطقة، وألا يكون الحوار بينهم حوار طرشان