والخلائق تسبح بحمده " مائدة الطعام "
والخلائق تسبح بحمده " مائدة الطعام "
نعم ، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى ، حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية ، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية ، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي ، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى . فعبرَ مقالات من " والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة .
هنالك خطأ جسيم يتربّص بالمسيحي الذي يعتبر الأسرار مسائل تحتاج إلى حلول. وإن العقائد هي تعاليم تحتاج إلى دراسة وفهم، لأن العقائد الإيمانية هي أكثر من تعاليم، إنها حقائق، ولأن الأسرار الإلهية هي أكثر من مسائل، إنها انجذاب وانخطاف. المسائل والتعاليم هي أفكار مؤطَّرة تنتهي بنهاية فهمنا لها أو حلّها، بينما العقائد والأسرار الإلهية هي ينابيع حقائق تتدفق بدون حدود، ولا تنضب أبداً. ولكي لا تنحدر الأسرار إلى مسائل والعقيدة إلى تعليم يجب ألاّ يتحول (أستغفر ربي) الله إلى صنم تشّع منه الأحاجي والخرافات، وألاّ يُسجَن الوحي داخل أقفاص صِبَغنا الفلسفية البائسة.
لأجل حثّنا على الإيمان قيل لنا أن ملكوت السماء هو الرؤية الأبدية لجوهر الله،( متى 20:5) وإننا من خلال جوهر الله سوف يمكننا أن نشاهد ما لا نهاية من الكينونات الممكن حدوثها، وهذا ما سوف يكون موضوع سعادتنا إلى الأبد. إنها لنظرية محبوكة جيداً وصحيحة مئة بالمئة رغم صعوبتها، غير إنني أتساءل: لماذا أنا أمكث جامداً إزاءَها غير مكترث بها، لاسيما عندما أسمعكَ يا سيدي تشبّه ملكوت السماء بمائدة كبيرة للطعام"وياتي من المشرق والمغرب" ( لو 29:13) وهنالك مَثَل قديم يقول:"لا أحد يرغب ما لا يعرف، وكلما ازدادت معرفتنا لشيء من الأشياء، كلما ازددنا شوقاً وميلاً له".
ومَن منا لا يعرف لذّة الطعام والغبطة التي يشعر بها وهو جالس برفقة أصحابه على مائدة الطعام؟. أما بصدد الجوهر والكينونات الممكنة فأنا لم أصادف في حياتي جوهراً ولا مررتُ بكينونات محتَمَل حصولها!. وهل يُعقَل أن يتوب إنسان إلى ربّه وينخرط في المسلك القويم ويبذل جهوداً مضنية لنيل ملكوت السماء( متى 1:20) ) لا لشيء إلاّ لرؤية أعداداً متزايدة من جواهر الكينونات الممكنة على مدى الأبدية؟؟... هذا يشبه الفرق بين ما يعلنه مركز الإرصاد الجوي عن شؤون الشمس في الساعة الخامسة صباحاً، وبين ما يتغنّى به شاعر رومانتيكي عن روعة انبلاج الفجر. عندما نكون جالسين جميعاً على مائدة كبيرة ونحن نشرب نخب الله الآب ونتسامر مع بعضنا كأصدقاء، هذا هو الفجر، وهو شبيهٌ بالفجر الأول عندما خلق الله أول نهار وأول إنسان في الكون!.(تك 1). إن المائدة المقدسة حيث يجلس الأبرار بصحبة الله تتجاوز جميع نظريات اللاهوت عن الجوهر والكينونة، كما يتجاوز فجر الخليقة الأول جميع أرقام المراصد الجوية وحساباتها عند إعلانها توقيت طلوع الشمس.
إن المدعوّين إلى مائدتكَ الإلهية يا سيدي، " يجلسون حولكَ" ( متى 28:19)، ويأكلون جسدكَ الذي فديتَ به العالم، ويتحدثون معكَ بكل بساطة وسذاجة بعيداً عن التعقيدات والأفكار الغامضة وعن جميع فلسفات الأونطولوجيا!. والروح مثل موسيقى عذبة تناغينا وتتركنا مغمورين في عمق أسراركَ عندما نجلس معاً على مائدتكَ المقدسة وكأننا عائلة واحدة، وأنتَ بعيد عن جلال عرشكَ، لأنه هل من المعقول أن تحتفظ بعرشكَ وأنتَ بين أحبابكَ وأخدانكَ؟.
في مائدتكَ المقدسة حينما باركتَ الخبز وقلتَ:"هذا هو جسدي" (متى26:26)، وباركتَ الخمر وقلتَ:"هذا هو دمي" (متى27:26)، أكان هنالك حاجز يفصل بين الله والإنسان؟!، ألم تصبح قريباً من متناولنا وكأنك تشير لنا بما سوف تكون وليمة السماء؟. السماء ليست صالة سينما، بل صالة طعام. في صالة السينما تكون بين الجالسين مقاعد فارغة والجالسون أنفسهم غريبون عن بعضهم ولا يتحدثون، كما هو حالنا اليوم بسبب وباء كورونا، بل ينظرون فقط نحو الأمام ليشاهدوا الصور المتحركة على الشاشة. أما في قاعة الطعام فإن الأنظار تتصالب، والأسئلة تتشابك، والفكاهات تتبادل، والفرح يعمّ جميع المدعوّين.
سماؤكَ يا سيدي هو دار ضيافة، قاعة طعام، ووليمة عيد. تبّاً لنا إذا لم نستطِعْ أن نضع في صيغة فلسفية مناسبة بساطة هذا السرّ الإلهي، لأنه صعب على العقل أن يشرح ما هي الأعياد، فهو يترجمها على أنها حفلات محتشمة، لكن هذه الترجمة البائسة تفتقر إلى الجانب المهم من فرح الأعياد الذي هو روحها ورحيقها.
يا سيدي، إني أفضّل أسلوبكَ الفلكلوري البسيط على جميع فلسفات الأرض، فأرى جميع القديسين مصطفّين أمامي في وليمتكَ الكبرى، وفي مقدمتهم مريم العذراء، ثم بطرس الرسول والمفاتيح ترنّ بين أصابعه، وزكّا بقامته القصيرة، ولعازر وهو يخرج من القبر بأكفانه البيضاء مترنّحاً. هنا لا جوع ولا تعب، لا موت ولا عطش. فمائدة الطعام هي العهد الذي أبْرَمتَه مع مدعوّيكَ منذ الأزل، مدعويك المتواضعين والمخلصين والاطهار ، ويشترك فيها جميع البشر، الفقراء والاغنياء ، القريبين والبعيدين ، وشرفنا هو أنكَ دعوتَنا إلى مائدتكَ مجاناً. بكلامك المحي وقولك المحب في أنجيلك المقدس، وليس عبر حاسوب الدنيا ، وموبايل الزمن وآي بات الحياة والتي ترافقنا ومن المؤسف ، منذ الصباح وفي القيلولة كما ساعة النوم بعد منتصفها ، واليوم ومنذ عرس قانا، منذ سمعان الأبرص في بيت عنيا، منذ عليّة صهيون وحتى تلميذَي عمّاوس... وحتى يومنا هذا أيضاً لا زلتَ تشير لنا يا سيدي أن مائدة الطعام ليست إلاّ رمزاً لملكوت السماء!.(متى 28:19 ) . نعم وامين .