واخرست الابواق...
اذا كان السياسيون العراقيون يظنون بان حفنة من القبلات الاستعراضية امام الشاشة الصغيرة يطبعها بعضهم على وجه بعضهم الاخر، كما رايناها اليوم، يمكن ان تحل الازمات المستعصية التي تعصف بالبلد، فلماذا، اذن، تاخروا علينا كل هذا الوقت الطويل، لتتفاقم الازمات التي راح ضحيتها الالاف من الشهداء والجرحى والمعوقين والايتام والارامل والتدمير المنظم للبلد؟ لماذا بخلوا علينا بمثل هذا الفيلم الجميل؟.
لماذا لم يتبادلوا القبلات لحظة بداية الازمة؟ فيوفروا على العراقيين الكثير جدا من الدماء والارواح؟.
انني على يقين بان السياسيين، وقبل غيرهم، يعرفون جيدا بان سياسة تبويس اللحى لن تغير من الواقع شيئا اذا لم يستحضروا قلوبهم التي هي (شتى) واراداتهم التي غابت في مهب الريح، وعزائمهم التي خارت فلم تعد تقوى على شئ، او تصمد امام عواصف الازمات الخطيرة التي يمر بها العراق اليوم.
ان تبادل القبلات يجب ان يسبقه تبادل الحب والوئام والوفاء، لتنتج حلولا للمشاكل المستعصية والازمات المزمنة، فلطالما رايناهم يتبادلون القبلات في مثل هذه الاجتماعات الضيقة والموسعة، فماذا كانت النتيجة سوى المزيد من الكراهية والتهم المتبادلة والتي انتجت المزيد من المعاناة للعراقيين؟ لماذا؟ لانهم يتركون المحبة وصفاء القلوب والاحترام المتبادل عند عتبة باب القاعة فيدخلون الاجتماع وقد افرغوا نفوسهم وعقولهم وضمائرهم من آخر ذرة من الاحترام المتبادل، ولذلك يخرجون في كل مرة من الاجتماعات بلا نتيجة، بل بنتائج عكسية، تزيد الطين بلة، على حد قول المثل المعروف.
وان تبادل القبلات في مثل هذه الاجتماعات ستنتج حلولا للازمات اذا اقتنع الجميع بان الحوار قيمة اساسية عند البحث في المشاكل، وانه مبدا استراتيجي لا غنى عنه، وليس شيئا تكتيكيا يلجأون اليه كانحناءة اما العاصفة، حتى اذا مرت بسلام عادت حرب الفضائيات والاعلام والتصريحات الى الواجهة مرة اخرى.
كما ان مثل هذه الاجتماعات ستنتج حلولا اذا ما تعامل الجميع بواقعية بعيدا عن المثاليات والشعارات.
لا اريد هنا ان اقلل من قيمة المبادرة التي انجزها اليوم السيد عمار الحكيم، في اطار نهج وسطي ومعتدل يعتمد الحوار والشراكة الحقيقية، بعيدا عن التخوين والطعن بالولاءات وصناعة الازمات، هو موضع ترحيب وتاييد مختلف الاطراف السياسية فضلا عن الشارع العراقي، لا اريد ان اقلل من قيمة هذه المبادرة فبمجرد لقاء الفرقاء وتواصلهم وعدم القطيعة يعني الكثير، اقلها انهم يواصلون الحوار وجها لوجه.
حتى اذا تبادلوا التهم والافتراءات والطعن وسب وشتم بعضهم البعض الاخر، فانما فيما بينهم وليس عبر الشاشة الصغيرة، وهذا وحده يكفي لنعتبر المبادرة مهمة وربما تكون ناجحة.
لقد سمعت المرجع والفقيه السيد صادق الشيرازي مرة يتحدث عن سر نجاح الغربيين في حل مشاكلهم قوله: انه بعد الحرب العالمية الثانية اجتمع المتقاتلون واتفقوا على نقطتين جوهريتين:
الاولى: ان لا يلجأوا الى الحرب مرة اخرى مهما اشتد الخلاف بينهم، فالدم والقتال والحرب والسلاح خط احمر فيما بينهم لا يحق لاحدهم ان يلجأ اليه.
ثانيا: ان لا يقاطع بعضهم البعض الاخر، مهما اشتد الخلاف وعلت الاصوات، فالاصل هو التواصل والحوار واللقاء، اما القطيعة فليس لها محل من الاعراب في علاقاتهم ابدا.
وسيصل العراقيون، في نهاية المطاف، الى هذه النتيجة، فلقد ايقن الجميع بان الاقتتال، حتى السياسي منه، لا ينتج حلولا ابدا، كما ان القطيعة والمقاطعة والزعل لا ينتج حلولا لاية مشكلة مهما كانت تافهة، وكلي امل في ان يصلوا الى هذه النتيجة باسرع وقت، اليوم قبل الغد.
فالى متى يظل العراقيون ضحية خلافات السياسيين المتخندقين بطوائفهم؟ الى متى يظل العراقيون يدفعون الثمن من دمائهم وحياتهم وارواحهم ومستقبلهم، بسبب خلافات السياسيين؟.
ان حوار الفضائيات لا ينتج حلولا، وانما الحوار وجها لوجه هو الذي ينتج حلولا ربما لاعقد الازمات، وان من الخطا، بل من الجريمة بمكان، ان يتحاور السياسيون عبر الشاشة الصغيرة، كل من مكتبه، بلا اكتراث للشارع، وما يعاني منه اليوم.
لقد ظلت ابواق كل طرف من الاطراف المتنازعة تنفث سموما لوثت الاجواء، فما الذي ستقوله هذه الابواق التي اخرست اليوم بعد تبادل اولياء نعمها القبلات امام الشارع العراقي؟.
ان واحدة من الدروس التي نتعلمها من سياسة تبويس اللحى هي ان لا ندخل في صراعات السياسيين عندما لا يكون لنا فيها ناقة ولا جمل، فاذا كانت الابواق تجد ضالتها في الازمة، فما الذي ستفعله عندما تنتهي فجأة، ربما، ومن دون سابق انذار او مشاورة مع بوق او حتى اشعار مسبق؟.
لقد استدرج الكثير من (المثقفين والكتاب) الى صراعات السياسيين فوقفوا بجانب هذا ضد ذاك فسمعناهم يتهجمون على طرف لصالح طرف آخر، من خلال توزيع التهم والطعن بالولاءات والتشكيل بالاجندات، فماذا سيقولون بعد لقاء القبلات؟ هل سيصمتون؟ ام سيبررون لصاحبهم قبلاته لعدوه اللدود الخائن والعميل؟ ام سيتراجعون عن اتهامهم لخصمه؟ فلم يعد، مثلا، ينفذ اجندات خارجية؟ ولم يعد يتجاوز على الدستور؟ ولم يعد اسوأ السياسيين؟ ولم يعد يقبض اموالا من هذه الدولة او تلك؟.
مشكلتنا اننا نحب ونتكلم ونبغض ونتكلم، فترانا اذا احببنا احد رفعناه الى مصافي الانبياء والرسل والمعصومين، فنحلم به في مناماتنا، ونرى صورته في وجه القمر، اما اذا كرهنا احدهم فسننزله الى ادنى من مستوى الشيطان الرجيم، والغريب في طباعنا اننا اذا احببنا الذي كرهناه يوما فسنرفعه من الحضيض الذي اوقعناه فيه الى مصافي السماء السابعة، والعكس هو الصحيح، فاذا كرهنا من احببناه يوما، اذا به ينقلب في كتاباتنا واحاديثنا الى شيطان رجيم بعد ان كنا قد اثبتنا للراي العام وبالادلة القاطعة والتنظير العلمي الذي قل نظره انه ملاك يمشي على الارض.
ومن اجل ان لا نتطرف في علاقاتنا وتقييمنا لاي كان، حتى لا نحرج انفسنا امام الراي العام اذا ما تغيرت الظروف، فان علينا ان نتذكر دائما قول امير المؤمنين الامام علي بن ابي طالب عليه السلام الذي يحث فيه على التوازن في العلاقات والوسطية في التعامل، فلا افراط ولا تفريط، اذ يقول {احبب حبيبك هونا ما عسى ان يكون بغيضك يوما ما، وابغض بغيضك هونا ما عسى ان يكون حبيبك يوما ما} فبهذه المعادلة سنبتعد او نقترب من اي كان ليس بالعواطف او بالمصالح الشخصية والولاءات الحزبية، وانما بالموقف والانجاز والسمعة.
مساكين اولئك الذين تحولوا الى ابواق لهذا السياسي او ذاك، فلقد اسقط اليوم في ايديهم وهم يرون ولي نعمتهم يتبادل القبلات الحارة جدا جدا مع عدوه الذي نعتوه بالامس بكل الصفات السيئة، فكيف سيتصرفون بعدها يا ترى؟.
تعالوا نتعلم الوسطية والتوازن في العلاقة مع اي كان، فالتطرف بكل اشكاله شئ مذموم، ولنترك لانفسنا خط رجعة، فلماذا نحرج انفسنا بالتطرف في الراي والموقف والطعن؟.
1 حزيران 2013
NHAIDAR@HOTMAIL.COM