هل أصبحت المفاوضات عقيمة؟
مثّلت الحلقة النقاشية التي نظمتها "الحملة العالمية للعودة إلى فلسطين" بدعوة خبراء ومختصين وأكاديميين ومفكرين للحوار، فرصة مهمة لتبادل الرأي واستمزاج وجهات النظر بخصوص العدوان "الإسرائيلي" على غزة وانعكاسات ذلك دولياً وإقليمياً، وكذلك عربياً وفلسطينياً، إضافة إلى انعكاساته على "إسرائيل" وعلى موضوع المفاوضات الفلسطينية - "الإسرائيلية"، تلك التي سبق وأن وصلت إلى طريق مسدود، بل ويزداد انغلاقاً يوماً بعد آخر، خصوصاً بوجود حكومة نتنياهو، الأكثر تطرفاً، وقيادة حزب الليكود (الحاكم) من جانب مجموعة متطرفة ومتعصبة شعارها يقوم على أرض "إسرائيل" الكاملة، وتسعى هذه المجموعة إلى طرد الفلسطينيين سواء في مناطق ال 48 أو مناطق ال ،67 الأمر الذي يقف حجر عثرة أمام أية تسوية، حتى إن كانت بحدّها الأدنى، علماً بأن اتفاقيات مدريد- أوسلو 1991- 1993 والمفاوضات التي استمرت لأكثر من 20 عاماً لم تجلب معها سوى المزيد من الويلات للشعب العربي الفلسطيني، ولم تحقق أية فوائد تُذكر .
وكانت مفاوضات الحل النهائي وقعت في المحذور العام ،1999 الأمر الذي يعني العودة مجدداً وفي كل مرّة إلى المربع الأول، وظلّت قضايا مثل القدس والحدود والمستوطنات والمياه وحق العودة وإقامة الدولة، وغيرها بلا حلول تُذكر، بل ازدادت تعقيداً مع مرور الأيام، وإذا كان عدد المستوطنين قبل أوسلو 93 ألفاً في الضفة الغربية، فقد بلغ عددهم اليوم 700 ألف، وهذا بحد ذاته مؤشر على عدم رغبة الطرف "الإسرائيلي" في الوصول إلى حل سياسي، حيث ارتفعت وتيرة عدوانيته، خصوصاً برفض الشعب العربي الفلسطيني التسويات المذلّة واستعداده للمقاومة بكل أشكالها، وهو ما كان أحد إفرازات حروب "إسرائيل" وعدوانها المتكرر على غزة .
ومنذ الانتفاضة الثانية العام 2000 فإن المفاوضات لم تحرز أي تقدّم وكانت "إسرائيل" تلعب بالوقت، كما هي مفاوضات واي ريفر في 1999 ومفاوضات أنابوليس العام 2007 ومفاوضات عمان العام ،2012 ومفاوضات واشنطن العام ،2013 وليس بعيداً عن ذلك ما سمّي المفاوضات الاستكشافية والمفاوضات غير المباشرة، إضافة إلى المفاوضات المباشرة، وكل أنواع المفاوضات تلك لم تحرز أية نتائج، سوى تكريس الاستيطان وتدمير الوحدة الجغرافية للأراضي الفلسطينية والإخلال بالمعادلة الديموغرافية في القدس وفي الأغوار وفي قلب الضفة .
يعد العدوان " الإسرائيلي" على غزة هو العدوان الرابع خلال 7 سنوات، إذا اعتبرنا الحصار الاقتصادي المفروض على غزّة هو العدوان الأول والمستمر، فإن عملية "عمود السحاب" كانت عنواناً لعدوان أواخر العام 2008 وبداية العام 2009 واتخذ عدوان العام 2012 عنواناً آخر باسم "الرصاص المصبوب" وكان عدوان العام 2014 الذي استمر نحو 51 يوماً بعنوان: "الجرف الصامد" .
وجاءت عملية "الجرف الصامد" تحت ذريعة خطف ثلاثة مستوطنين "إسرائيليين" وقتلهم، وحمّلت حكومة نتنياهو المتطرفة، حركة حماس مسؤولية ذلك، وأشاعت جواً من التحريض والهيجان، الأمر الذي دفع لشن هجوم جوي مكثّف ضد قطاع غزة وبناه التحتية ومؤسساته وضد السكان المدنيين . وكان أن أقدم المتطرفون على رد فعل غاضب بقيامهم بحرق الفتى الفلسطيني محمد أبو خضير حيّاً، وهي صورة بشعة زادت من الصورة المشوّهة ل "إسرائيل" على المستوى الدولي، وهو ما دعا بعض دول أمريكا اللاتينية، إضافة إلى اليسار الأوروبي وحركات البيئة ومنظمات حقوقية وجماعات مدنية عالمية، لإدانة هذه الجريمة البشعة والجرائم "الإسرائيلية" لاحقاً، بل والمطالبة بتقديم المرتكبين إلى العدالة الدولية .
وقد سارعت "إسرائيل" لتوسيع عملياتها العسكرية بحجة الصواريخ الفلسطينية، بهدف محو صورة حرق الفتى الفلسطيني، وإظهار صورة أخرى محلّها، أما السبب الآخر من شن الحرب، فهو استهداف التفاهم الفلسطيني بين حركتي حماس وفتح، وتجاوز شروط المصالحة السابقة، واستقالة حكومة إسماعيل هنيّة وقيام حكومة وفاق وطني في الثاني من يونيو/ حزيران 4102 ، أي قبل العدوان بأسابيع قليلة، فغالباً ما كانت "إسرائيل" تستخدم الانقسام الفلسطيني، بل وتراهن عليه لتوظيفه حجّة لعدم تنفيذ إلتزاماتها الدولية، بما فيها المدوّنة في اتفاق لا يمثل معيار الحد الأدنى، كما هو اتفاق أوسلو .
لكن نتائج العدوان لم تأت كما هي توقعات "إسرائيل"، إنْ لم تكن قد جاءت بصورة عكسية أي حسابات الحقل لم تكن متطابقة أو حتى مقاربة لحسابات البيدر، فلم تتمكن، كما كانت تخطط، من قتل قيادات مقاومة بارزة، كما حصل في العام 2008 حين اغتالت سعيد صيام ونزار الريّان (من قادة حركة حماس) وفي حرب 2012 اغتالت قائد قوات كتائب القسّام أحمد الجعبري، مثلما لم تتمكن من إطفاء جذوة المقاومة التي ارتفع رصيدها المعنوي، لاسيّما بالوحدة الوطنية وبالتأييد الدولي .
وكانت خسائرها الميدانية كبيرة قياساً بالحربين السابقتين، حيث قتل لها أكثر من 68 جندياً وضابطاً "إسرائيلياً" وفشلت العملية البرّية، وكانت أقرب إلى مصيدة لها، وأدى العدوان إلى تلاحم ميداني وسياسي فلسطيني، إضافة إلى وحدة الوفد المفاوض في القاهرة، كما لم تستطع "إسرائيل" ضرب مواقع القذائف الفلسطينية وتدميرها، بل كانت الخسائر الكبرى والأساسية بالسكان المدنيين العزّل وبمواقع يفترض أن تكون محميّة دولياً كالمستشفيات والمدارس ودور العبادة، وهو الأمر الذي وسّع من نطاق المطالبة بمحاكمة مجرمي الحرب وتشكيل لجان تحقيق محلية بعضها "إسرائيلي" ضد حكومة نتنياهو، وكذلك تشكيل لجان تحقيق دولية في مقدمتها لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة برئاسة البروفيسور وليم شباس، وهناك أكثر من فريق عمل دولي يسعى لاستهداف أسماء كبيرة "إسرائيلية" سياسياً وعسكرياً .
ولعلّ صورة "إسرائيل" اهتزّت دولياً، وكذلك ازدادت نقمة الكثير من "الإسرائيليين" ضد حكومة نتنياهو، خصوصاً أن حركة المقاومة بالرغم من الدمار الهائل الذي حلّ بسكان غزة، ظلّت محافظة على رباطة جأشها ووحدتها وقدراتها العسكرية وأدائها السياسي الناجح، وقد حقق لها ذلك نجاحاً معنوياً كبيراً، قد يكون فاق نجاحها الميداني والسياسي، حيث اضطر "الإسرائيليون" في المناطق التي استهدفتها الصواريخ إلى الرحيل عن بيوتهم ومناطق سكناهم وهو ما شكّل عنصر ضغط على حكومة نتنياهو التي وإنْ كانت تناور بشأن التهدئة ، لكنها كانت بحاجة حقيقية لها .
وقد أحرج الأمر كثيراً حلفاء "إسرائيل"، لاسيّما الولايات المتحدة، التي كانت دعت لاعتبارات كثيرة إلى حل الدولتين منذ نهاية عهد الرئيس بيل كلينتون وخلفه الرئيس جورج دبليو بوش، وكان من اهتمامات الرئيس باراك أوباما، المسألة الفلسطينية وإقامة دولتين كما ورد في العديد من خطبه الموجهة إلى دول المنطقة، لدى تسلّمه الإدارة في العام ،2009 ولكن في عهده اعتدت "إسرائيل" على غزة مرتين، الأمر الذي ضاعف من عزلة واشنطن في المنطقة، إضافة إلى عزلتها بسبب سياساتها العدوانية، خصوصاً بعد احتلال العراق وإزاء العديد من البلدان والشعوب العربية .
ولعلّ ذلك كلّه يعتبر قنابل موقوتة تهدد بالانفجار في أية لحظة، لاسيّما وأن المفاوضات الفلسطينية - "الإسرائيلية" أصبحت منذ حين على شفير الهاوية، سواء كانت المفاوضات المباشرة أو غير المباشرة أو سمّيت بالاستكشافية أو بالوساطات لاعتبارات سياسية أو فنية، من دون توفر ضمانات حقيقية دولية لحقوق الشعب العربي الفلسطيني وحقه في تقرير مصيره وإقامة دولته الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف .
صحيفة الخليج الاماراتية ، الاربعاء 10/9/2014