من شعائر العتمة و الغباء
عادل سعد
مع كل ما يحيط إعادة إعمار المناطق العراقية المنكوبة بفعل الإرهاب و العنف المسلح، يظل التخطيط و التنفيذ حافلاً بالتجاذب الأزلي بين الحسم و التسيب و الإشباع المفتوح بالفساد و كأن الوضع في هذا الشأن أحد أقدار العراق مع الاسف.
ليس هناك أية خطة جدية بتوقيتات معروفة في التصدي لكل لآثار الدمار، و إذا كان لا بد من التفصيل يصبح من حق محافظة نينوى أن تحتل الصدارة في الشكوى من تأخر المعالجة الإعمارية أصلاً، لكن الأخطر من ذلك أن هناك نكبة ما زالت منسية جزئياً في الحسابات المعدة لهذا الهدف .
لقد تصدر المشهد إعمار البنى التحتية البلدية، و إعادة تشغيل بعض المشاريع الصناعية و الزراعية و الخدمية، و ترميم بنايات و إصلاح طرق في حين أن (إبادة جماعية) طالت مخطوطات و معالم تراثية و حضارية أخرى و كل ما يتعلق بالممتلكات الذهنية.
سأكون أكثر تمهيداً في ذلك و البداية من تصرف سيدة عراقية (يعمل) زوجها لصاً متخصصا في سرقة المخطوطات و الوثائق السرية و الاثار المعرفية الأخرى و المتاجرة بها.
لقد حوّل منزله إلى مخزن متقدم لهذه الشواهد العراقية التي سرقها و في أكثر من (مناسبة) واحدة من مناسبات التنظيف التي تعتمدها زوجته لجأت إلى استخدام بعض أوراق الوثائق لتنظيف زجاج المنزل، كما لم تتورع من الاستعانة ببعض المخطوطات النادرة لوضعها تحت مناضد أو خزانة ملابس أو طباخ أو براد من أجل تثبيت استقرار تلك الأثاث، فهي تسحب بين فترة و أخرى مخطوطة من المخطوطات المسروقة لهذا الغرض و تعمل ذلك بفرح بليد، و لي أن أضيف مشهداً مفصلياً رأيته بالعين المجردة خلال ثلاث جولات زُرت فيها الموصل و بغديدا و تلكيف و تلسقف و برطلة من حواضر محافظة نينوى ذات الكثافة السكانية الكلدانية السريانية الاشورية، كان ركام المخطوطات و الايقونات النادرة و الفخارات المدمرة مشهد كارثةٍ بكل ما يعني هذا التوصيف من دقة، بل أن النقوش و المنمنمات في أعالي جدران داخلية و سقوف مساجد و كنائس و أديرة قد أوصلوا نيران النفط الأسود لها، و روى لي أحد سكان الموصل، أن مسلحين كانوا يتمتعون (بالرقص الديني) على حافة نيران أكوام الكتب و المخطوطات بعد أن يجمعوها من المكتبات الملحقة بالمقامات الدينية ثم تبدأ حفلات الحرق، و كأنهم بذلك يستكملون ما حصل من تدمير بالماء ضمن متوالية أقدم عليها التتر عند احتلالهم بغداد في القرون الوسطى فقد أمر هولاكو أتباهه بجمع آلاف المخطوطات و المعالم الأثرية النادرة و رميها بنهر دجلة على أمل أن يشيد جسراً منها على النهر، و هكذا اصطبغ سطحه بالأحبار و ضاعت تلك الثروة في كارثة لم يترك مدون تاريخي فرصة آنذاك للحديث عنها .
تقول الباحثة الأكاديمية في جامعة هاواي ريبيكا نورث في كتابها (إبادة الكتب) أن هذا النوع من الإبادة ليست مجرد جرائم عشوائية يرتكبها برابرة و ظلاميون بل وسيلة من وسائل شن حروب تتسم بمنهجية متواصلة لتوظيف العنف في تكريس إفقار الأذهان، هذا عن كارثة رصيد العقول فماذا عن رصيد الأموال.
لقد كان لجدتي اربعة دنانير هي كل مدخراتها عندما كان الدينار العراقي يحكي - و هو توصيف مجازي عن ارتفاع سعره - و كانت هذه السيدة الريفية الفقيرة تتفقد تلك الدنانير الاربعة في أعماق وسادتها بين فترة و أخرى خشية أن تتسلل إليها (حشرة العث) الصغيرة جداً فتلتهمها.
كانت جدتي على معرفة (عظيمة) في حماية تلك المدخرات، السؤال هنا كيف فقد مسؤولو البنك المركزي العراقي حسن التدبير حتى و إن كانت بأبسط صورها فأتاح إهمالهم غرق سبعة مليارات دينار عراقي بمياه الأمطار.
إن الحقيقة الإضافية هنا أن هؤلاء المسؤولين الماليين تنكّروا لأبسط إجراءات المتابعة.
أجزم أن الإهمال و الجهل يقيم في نفوس بعض العراقيين، و أجزم أن العتمة تقيم شعائرها مع سبق الإصرار و الترصد و التسلح بالغباء.
صحيفة الوطن العمانية
الجمعة 23/11/2018