مانديلا وثلاثيته الأثيرة
هذا الأسود الأشدّ بياضاً في هذا العالم رحل أخيراً بهدوء، فقد أعلن رئيس جنوب إفريقيا جاكوب زوما عن وفاة الزعيم التاريخي لجنوب إفريقيا نيلسون مانديلا، وأول رئيس لها بعد القضاء على نظام الفصل العنصري (الأبرتايد)، عن عمر يناهز ال 95 عاماً، قضى منها 27 في السجن .
ويعد مانديلا من أهم الزعماء الكبار الذين آمنوا باللاعنف، إضافة إلى المهاتما غاندي ومارتن لوثر كنغ والأديب الروسي ليو تولستوي، وهو أحد مصادر الإلهام والإبداع الإنسانيين على هذا الصعيد، لاسيّما كفاحه من أجل الحرية والعدالة والمساواة، وإيمانه بالتسامح وقد أكسب بلاده سمعة كبيرة، خصوصاً عندما تحوّلت من نظام الفصل العنصري إلى نظام التداولية السلمية الديمقراطية، من خلال صندوق الإقتراع والانتخابات للجميع دون عزل أو تمييز على أساس عرقي أو إثني أو سلالي أو ديني أو جنسي، أو بسبب المنشأ الاجتماعي أو غير ذلك .
وقد كانت تجربة جنوب إفريقيا في ميدان العدالة الانتقالية متميّزة ومثيرة وهي مصدر دراسة نظرية وعملية على الصعيد العالمي، ليس بهدف التقليد أو الاستنساخ، بل لغرض الإفادة منها تجربةً إنسانيةً متميّزةً، ولاسيّما في القيم والمبادئ التي استندت إليها، وكان لمانديلا الدور الأكبر في ذلك، وهو ما حاول أن يؤسس له من سجنه بدعواته المتكررة لتنظيم حملات سلمية ومدنية ضد التمييز العنصري، ورفضه الاستجابة إلى العنف ودعوته إلى اللاعنف والتسامح، وفيما بعد للمصالحة وإعادة بناء الدولة والمجتمع على قيم الحرية والمساواة وعدم الثأر أو الانتقام أو الكيدية أو روح الكراهية .
ولد مانديلا في 18 يوليو/تموز 1918 في ترانسكي بجنوب إفريقيا لقبيلة كبيرة ومؤثرة، وتخرّج في الجامعة (كلية الحقوق) 1942، وانخرط في العمل السياسي في وقت مبكر وأصبح رئيساً للمؤتمر الوطني الإفريقي في وقت لاحق . واختار الكفاح المسلح في عام 1961 ضد سياسات التمييز العنصري كمرحلة للكفاح، لكنه عاد وتبنّى فلسفة اللاعنف والمقاومة السلمية المدنية التي شعر أنها الأكثر مضاءً وتأثيراً، والأنجع لتحقيق أهدافه الإنسانية، وقد ألقي القبض عليه في عام 1962 وحكم عليه لمدّة خمس سنوات . وفي عام 1964 حكم عليه بمدى الحياة بتهمة التخريب والخيانة .
تحت ضغط الرأي العام أفرج عنه في 20 شباط (فبراير) عام 1990 وفي عام 1993 حاز جائزة نوبل للسلام وأصبح رئيساً لجنوب إفريقيا، حينما انتخب في 29 نيسان (ابريل) ،1994 وبعد خمس سنوات (في عام 1999) قرّر الاعتزال والتقاعد الطوعي، فاسحاً في المجال للتناوب على السلطة وللتداول السلمي للمسؤولية .
لقد نجح مانديلا في أن يحوّل بلداً ممزقاً ومتصارعاً ويسوده العنف إلى بلد موحّد ومنسجم ومتسامح ويسوده السلام، وبدلاً من العنصرية والتمييز والانقسام، أصبح البلد المتعدّد الأعراق والإثنيات والسلالات مصدر قوة ووحدة، لاسيّما عندما سادت فيه المصالحة الوطنية، وبما أن العدالة الاجتماعية وهو ما كان يطمح إليه عملية معقّدة وطويلة، فقد ظلّت بعيدة المنال، لاسيّما بتجريد ملايين من سكان جنوب إفريقيا السود من أراضيهم لمصلحة البيض، ولم يرغب مانديلا في إجراءات حادّة من شأنها أن توّلد ردود فعل حادّة، ولا سيّما بخصوص التفاوت الطبقي والاجتماعي الذي ظلّ صارخاً بفعل الأوضاع التاريخية .
أقدم مانديلا على تأسيس لجنة الحقيقة والمصالحة التي عُدّت إحدى التجارب العالمية المهمة، على الرغم من عدم مثاليتها، لكن جلسات الاستماع التي شهدتها بالمئات كان له وقع كبير على الضحايا، مثلما تمكّنت من تطهير الكثير من نفوس الذين أجبرتهم الظروف السابقة على الارتكاب . وقد عبّر فريدريك دي كليرك آخر رئيس أبيض لجنوب إفريقيا، والحائز جائزة نوبل مناصفة مع مانديلا، في مقابلة مع محطة تلفزيون "سي أن أن" الأمريكية: إن أكبر انجازات مانديلا كانت توحيد جنوب إفريقيا والسعي إلى المصالحة بين السود والبيض في عهد ما بعد سياسات العزل العنصري .
وقف مانديلا بشجاعة لا نظير لها ليعلن أن بلدنا هو للجميع، وللسود والبيض على حد سواء، وعلينا أن ننظر إلى المستقبل ولا نغرق في الماضي، وذلك تأسيساً لتجاوز قرون من التمييز العنصري وحروب الإبادة اللاإنسانية ضد السكان الأصليين من الأفارقة أصحاب البلاد الشرعيين .
وكانت جرأة مانديلا وحزمه وعوامل أخرى هي التي وقفت ضد احتمال ارتكاب مجازر ثأرية وعمليات انتقامية بحق السكان البيض، ولو كانت شرارتها قد اندلعت لكانت الحرب الأهلية قد أكلت الأخضر واليابس، وهي حرب ستكون شاملة بين الأفارقة والسكان البيض، لكن إنسانية مانديلا وشجاعته وشعوره العالي بالمسؤولية ونظرته الحضارية الإنسانية، هي التي حالت دون انزلاق جنوب إفريقيا في طريق العنف والاحتراب الداخلي والنزاع المسلح .
لهذا بادر مانديلا بوعي وبُعد نظر إلى تأسيس لجنة الحقيقة والمصالحة، وأوكل مهمة رئاستها إلى القس الجنوب إفريقي ديزموند توتو المعروف بنضاله ضد العنصرية، وأعطى لهذه اللجنة صلاحيات كبيرة بما فيها إصدار العفو عمن قاموا بارتكابات في السابق، بعد اعتذارهم لضحاياهم والاستماع إليهم في جلسات علنية، بغية إحداث الأثر الملموس من جانب الضحايا وذويهم من جهة، أو من جانب المذنبين الذين تقودهم لحظة الصفاء والاعتراف تلك إلى التطهّر الروحي والنفسي والتخلّص من آثار الماضي من جهة أخرى، فضلاً عن إعادة اللحمة الاجتماعية والمصالحة الحقيقية .
لقد عملت تلك الإجراءات والتدابير الحازمة على تفويت الفرصة على بعض العنصريين البيض الذين أرادوا إشعال الحرب الأهلية، لاسيما باغتيال الشخصية الشيوعية المعروفة كريس هاني، وذلك بفضل يقظة مانديلا وحزم حزب المؤتمر الوطني، اللذين أضاعا على العنصريين الفرصة، مقدّمين تجربة مهمة على صعيد المصالحة الوطنية .
لقد أنشأت لجنة الحقيقة والمصالحة بموجب قانون هدفه تعزيز الوحدة الوطنية وإنجاز المصالحة الوطنية، وحمل القانون الرقم 34 لعام 1995 وأعطيت بموجبه صلاحيات واسعة واستثنائية للجنة . وبخصوص العفو العام فقد ثار جدل في تطبيقاته، في حين كان العفو الخاص يشمل اعتراف المرتكب في طلب يقدّم للحصول على العفو وفي جلسة علنية، ويتم ابلاغ الضحية أو أحد أقربائه بتاريخ الجلسة ومكانها، ويحق له الإدلاء بشهادته او تقديم أدلة أو أي شيء يؤخذ في الحسبان . . وعلى المرتكب كشف الحقيقة وإن طلبه لنيل العفو يعني أن ما حصل كان مرتبطاً بأوضاع سياسية ونزاعات سابقة تخص الماضي .
وإذا كان العالم يتذكّر اليوم مانديلا بوداعه المهيب إلى مثواه الأخير، فذلك لأنه علّم أمّة منقسمة كيف تتوحد وقادها إلى كشف الحقيقة والمصالحة والوحدة الوطنية، مثلما علّم الإنسانية جمعاء معنى الصبر والعطاء بلا حدود، حين قبع 27 عاماً في السجن وخرج ليعلن أن لا سبيل لبناء جنوب إفريقيا غير التسامح، وهكذا حمل جلاّده على التفاوض والاعتراف، وقبول إجراء انتخابات على أساس التعددية وصوت واحد لإنسان واحد .
وحينما فاز في أول انتخابات ديمقراطية رئيساً شرعياً ومعترفاً به من جانب خصومه وأعدائه، سلك سبيل التسامح واللاعنف وعدم الانتقام أو الثأر، لأنه أدرك أنه لا يمكن بناء جنوب إفريقيا جديدة الاّ بالتعايش بين الزنوج والبيض . وكان ذلك درساً آخر في السلام المجتمعي والأهلي، بدلاً من الاحتراب الداخلي والحرب الأهلية التي كان الكثير من المراقبين يرجّحون احتمالات اندلاعها، نظراً لما عاناه سكان جنوب إفريقيا السود، من اضطهاد وعسف واستعمار استيطاني دام ثلاثة قرون ونيّف .
لقد كان تحرير السود يعني ضمناً تحرير البيض، ولاسيّما في ظل دولة أقرت مبادئ المساواة والحرية، وكان رمز ذلك التحرر وقلبه الأبيض هو ذلك الأسود الذي أصبح إحدى أيقونات عصرنا!
صحيفة الخليج الاماراتية ، الاربعاء 11/12/2013