لا بدّ من صنعاء ولو طال السفر
في تناقض عجيب يصف الشاعر مصطفى جمال الدين المجتمع النجفي في العراق بالانغلاق، وفي الوقت نفسه ونقيضاً له، يقول هناك انفتاح على صعيد الفكر، أي "الفكر المنفتح في المجتمع المنغلق"، هكذا كنت باستمرار أنظر إلى اليمن وتزداد قناعتي على نحو راسخ، بأن قيود التخلف الشديدة التي تلّف اليمن، يرافقها وعي متقدم، على نحو عفوي وتلقائي ممزوجاً بذكاء متميّز، تكتشفه لدى النخبة بشكل خاص، ولدى العامة أحياناً .
مناسبة الحديث هذا حلقة نقاش للخبراء في ميدان العدالة الانتقالية نظمتها وزارة الشؤون القانونية اليمنية ووزيرها محمد المخلافي الذي كان أحد أبرز نشطاء حركة حقوق الإنسان العربية خلال العقدين المنصرمين، وساعد على تنظيم الحلقة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والمفوضية السامية لحقوق الإنسان، التأمت في مؤتمر برعاية رئيس الوزراء محمد سالم باسندوه .
وعلى مدى يومين دار حوار معرفي وأكاديمي ومهني وحقوقي وثقافي بخصوص مفهوم العدالة الانتقالية وآليات تطبيقها والقواعد العامة التي تقوم عليها وخصوصيات المنطقة العربية، بل كل بلد عربي فيها، إضافة إلى الإجراءات التي اتبعتها اليمن والتدابير الأخرى التي ينبغي القيام بها لتأمين الجو الإيجابي لتطبيق مبادئ العدالة الانتقالية، وهو ما عبّر عنه المخلافي بإشارته إلى التزاوج بين "التسامح والعدل" من خلال المبادرة بإعداد مشروع قانون العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية .
ويأتي لقاء الخبراء بعد 14 ندوة ومؤتمر وورشة عمل وحلقة نقاش ولقاء تشاوري، إضافة إلى تلقي مقترحات من منظمات دولية حكومية وغير حكومية وأحزاب ومنظمات حقوقية وأفراد . المشروع تم تأسيسه على ثلاثة أركان، أولاً الصفح، وثانياً العدل، وثالثاً السلام، وهذه الأركان جزء من منظومة دقيقة لقّحت بموضوع "العفو" بالعدل، بحيث لا يؤدي الأول إلى تهديد السلام الذي هو الهدف السامي المجتمعي من آليات تطبيق العدالة الانتقالية، وصولاً للمصالحة الوطنية والسلم المجتمعي، ولكي تكون المصالحة الوطنية عادلة ومستمرة، لابدّ من اعتماد مقتضيات العدل والصفح معاً، وهذا يحتاج إلى عفو غير تمييزي، ولن يأتي هذا من دون معرفة الحقيقة، خصوصاً بمعرفة الضحية أو ذويه والمجتمع وقائع الانتهاكات ومن قام بها، ولن يتم ذلك إلاّ بالمساءلة، وتحتاج هذه إلى الاعتراف والاعتذار والعقاب في حالة عدم الانصياع أو تكرار الانتهاكات .
ولكي يكتمل المشروع لا بدّ من جبر الضرر، وهذا أوسع من التعويض للأفراد والضحايا، وجبر الضرر فيه تعويض للفرد والمجتمع وتخليد الذاكرة الوطنية ومنع تكرار الانتهاكات الجسيمة في المستقبل، أي أن العفو لا يعني إسدال الستار على الذاكرة لكي يطويها النسيان، فالعبرة بالتذكّر والاستذكار لمنع ما حصل، والحيلولة دون تكراره بنشر وتعميم ثقافة السلام والتسامح والاعتراف بالآخر وعدم الثأر والانتقام .
إن توفّر الإرادة السياسية والتوصّل إلى مخرجات الحوار الوطني للقوى والفاعليات السياسية والمدنية، الذي استمر شهوراً غير قليلة، يؤشر إلى ملامح الدستور المنشود الذي سيتم في إطاره انطلاق عملية سياسية جديدة بعد عامين ونيّف من تنحي الرئيس علي عبدالله صالح، بمبادرة لمجلس التعاون الخليجي والتي كان لها دور مهم في نزع الفتيل والتوجه صوب حل سياسي يُراد له أن يتوطد ويتعزز .
ولا شكّ أن هناك عقبات عديدة واجهت مشروع العدالة الانتقالية، قسم منها شكك في محتواه والآخر اعتبره محاولة للانتقام، وبالطبع فإن هناك خشية من كشف الحقيقة والاعتراف بالارتكابات، ومن الإصلاح المؤسسي، لكن ما يشجع هذه التجربة العربية الوليدة، على الرغم من أنها لا تزال جنينية، بعد التجربة المغربية وانطلاق التجربة التونسية، إنها لقيت دعماً من مؤتمر الحوار الوطني، إضافة إلى اهتمام عربي ودولي، وهو أمر في غاية الأهمية والمسألة لها علاقة بإعادة بناء الدولة على أسس جديدة، والعبرة ليست برفض وتجاوز الماضي وسياساته وآثاره، بقدر ما يتعلّق الأمر بعدم تكرار ما حصل عبر الإصلاح الشامل للمنظومة القانونية والقضائية والأمنية وتربيتها والمجتمع ككل على احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية .
الاستعانة بالتجارب العربية والدولية، مسألة مهمة للإفادة منها، والمقصود ليس استنساخها أو تقليدها أو نقلها واقتباسها حرفياً، بقدر ما يعني الاطلاع عليها، والاغتناء منها والتعرّف إلى التحدّيات والمصاعب والمشكلات التي واجهتها، والحلول التي اجترحتها، والآليات التي اعتمدتها، مثلما هي العديد من التجارب في أوروبا الشرقية أو أمريكا اللاتينية أو جنوب إفريقيا أو المغرب أو بعض دول آسيا وإفريقيا، وتنقسم الآليات التي اتبعتها التجارب الدولية إلى آليات قضائية وطنية سواءً كانت المحاكم المدنية أم المحاكم الجنائية التي يمكنها القيام بالمساءلة عن انتهاكات القانون الوطني ومحاكمة المرتكبين وإصدار أحكام قضائية بالتعويض، وآليات قضائية دولية أو (وطنية ودولية) مختلطة كما هي تجربة السيراليين (العام 0220) وهي من أشهر التجارب الدولية المختلطة، كما أن هناك آليات قضائية دولية خاصة مثل "المحكمة الدولية الخاصة بلبنان" واغتيال الشهيد رفيق الحريري (العام 2005) أو المحكمة الجنائية الدولية لرواندا (العام 1994) أو المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة (العام 1993) وهي محاكم خاصة ولا يمكن تكرارها .
ولا يمكن للمصالحة الحقيقية أن تتحقق من دون تهيئة مستلزمات إدماج الجميع في بوتقة الانتقال الديمقراطي . والسبيل لتحقيق ذلك يتم ب: 1- التشاور والتوافق أي (قناعة مجتمعية) 2- الاهتمام بحاجات المجتمع الخاصة (واستجابة لها) . ويعتبر التشاور والتوافق ضروريين جداً في المرحلة الانتقالية لتكوين رؤية مشتركة لإجراءات العدالة الانتقالية .
ولا بدّ أن تكون هذه الإجراءات متوافقة مع معايير حقوق الإنسان الدولية ومبادئ حكم القانون وذلك من خلال: تحديد فترة زمنية تكون موضوعاً للفحص، وتحديد نوع الجرائم، وتحديد نوع الأضرار التي ستكون محط الاهتمام، ومن ينبغي مساءلتهم وإخضاعهم لآليات العدالة الانتقالية؟ وما هي نوع المساعدة الدولية المطلوبة للتدخل اللازم؟ ومتى يمكن البدء بتنفيذ إجراءات العدالة الانتقالية؟ والهدف هو تحقيق التوافق بين القانون والعدالة، وبين العدالة والمصالحة وبين المصالحة والسلام المجتمعي من دون محاولة فتح الجروح .
وهنا يمكن لفت النظر إلى أن الفساد والجرائم الاقتصادية هي "أخت" انتهاكات حقوق الإنسان، الأمر الذي يقتضي المساءلة عنها واسترداد الأموال المنهوبة أو الإثراء غير المشروع أو امتيازات الحكام السابقين غير الشرعية، مع الإدراك بتعقيد هذه المسألة في النظام المصرفي والمحاساباتي والمالي والفني الدولي، ولعلّ استحضار تجارب ناجحة مثل البيرو التي حوكم رئيسها البيرتو فوجيموري بتهمة الفساد باعتباره انتهاكاً لحقوق الإنسان مسألة مهمة، وفي عالمنا اليوم هناك علاقة بين الفساد والإرهاب، وفي ذلك جانب آخر من جوانب تدويل آليات العدالة الانتقالية، التي لا غنى عنها على الرغم من ازدواجية وانتقائية السياسات الدولية .
عبد الحسين شعبان
صحيفة الخليج الاماراتية، الاربعاء 25/6/2014