في التوظيف المعرفي العادل
في التوظيف المعرفي العادل
يظل التوظيف المعرفي العادل واحدا من أساسيات التوضيح المكرس للأفكار، أو للشخوص الذين يراد تسليط الضوء عليهم، وإلا فإنك تغمط حق هذا التعريف الذي تدلي به، وحين يقال (شهادة للتاريخ) في التوصيف الدارج، تبقى الأمانة على المعلومات ناقصة إذا لم تأخذ الموضوع من كل جوانبه، أي ما له وما عليه وفق قياس أعطِ كل ذي حق حقه، وهكذا تكون قد وضعت أمام المتلقي حزمة من المعارف التي تغطي تماما التفصيلات، ومن تجربة ميدانية في مؤتمرات وندوات وحلقات عمل اضطر أحيانا للمشاكسة في إحاطات يتاح لي الإدلاء ضمن سؤال مشروع: هل كل ما طرح يغطي القضية التي نجتمع بشأنها؟
المشكلة تكمن في الهوى العام لبعض القائمين على هذا النشاط المعرفي أو ذاك، ولأن آفة الرأي الهوى على وفق التشخيص العربي العام تكون النواقص سيدة الموقف في التوضيح، حتى في بعض الجوانب التي تقتضي الحسم في الاجتهاد، وهكذا تتغرب الحقيقة في متاهة.
إن ما ينقصنا أحيانا هو سلطة الكفاءة التي تستدعيك أخلاقيا أن تتحدث عن الآخر بما يملك من مؤهلات إنصافا للواقع وتحريرا من الأنا. وتحضرني هنا شهادة تستحق الوقوف عندها حصلت خلال الحرب العالمية الثانية عندما حسم القائد البريطاني برنارد مونتجومري انتصار قواته على جيوش المحور في معركة العلمين الثانية، منوِّها بكفاءة خصمه القائد الألماني أوفين رومل، ومصرا على تثقيف جنوده بمزايا هذه الكفاءة وليس التقليل منها، الحال الذي دفع قوات الحلفاء المشاركة إلى حساب الأهمية الميدانية التي تتمتع بها قوات رومل، وبالتالي تشغيل المزيد من الإمكانات للمواجهة الميدانية.
ويرى باحثون أن واحدا من عوامل نجاح التجربة الاقتصادية في سنغافورة ترجيح سلطة كفاءة العقل التي تعترف بقوة الملتصقين بالماضي وتشعبهم العاطفي المتجذر في البلاد، مما وضع بأيدي المسؤولين السنغافوريين المتطلعين نحو الإصلاح المزيد من فرص النجاح، وتلك أحد أهم موجبات العمل الصحيح المتوازن.
هناك من يصاب بمتوالية لفلفة الحقيقة ويدفعه الهوى إلى تحليل الأوضاع على أساس ما يتمناه، وليس على إيقاع ما يحتمه الواقع. لقد شاركت في الأيام القليلة الماضية في حلقة تدريبية استضافتها وزارة العدل لصالح مشروع مدافعة تموله منظمة (اليونيسف)، التابعة للأمم المتحدة المعنية بالطفولة هدفه مساعدة الحكومة العراقية على تطبيق اتفاقية حقوق الطفل، وكان أحد موضوعات الحلقة تشخيص إخفاقات الحكومة في ولايتها التطبيقية على تلك الاتفاقية، فما كان من المشاركين بالحلقة إلا الالتقاء على زعم أن لا وجود لأية حالة تستحق التقدير، وبالمقابل نجح مدير المشروع وليم وردا، وهو خبير حقوقي دولي معروف في إعادة التصويب في إجراء كشف حساب موضعي للمشاركين في الندوة، داعيا إياهم إلى فحص الحالة، متحاشيا منهجية التعميم التي لا ترى من الألوان إلا اللون الأسود، وبالتالي تأثيث الخراب، بينما الحقيقة في مكان آخر من المشهد تنتظر في الظل، وهكذا إذا كان (العدل أساس الملك)، فإن من العدل أن تكون شهادتك عن أي موضوع تتناوله مدعوما بحيثياته الشاملة.
إن هناك الكثير من المظلومية التي أصابت أشخاصا ومؤسسات ومواضيع نتيجة التناول المبتور تحت تأثير الانحياز غير المشروع بعيدا عن الواقع، وبالضد من ذلك هناك الكثير من المضطلعين بمسؤوليات يتوخون الحذر الشديد في أحكامهم.
في كتابهما الشهير (مدير الدقيقة الواحدة) يحدد الأميركيان؛ الدكتور سبنسر جونسون وكينيت بلاتشارد ثلاثة مفاتيح للتعاطي المتوازن. المفتاح الأول: أن تعيِّن هدفك من المعرفة التي تضطلع بها، أما المفتاح الثاني فأن تبحث عن المنجز المتحقق الصائب لدى الآخرين لتشيد به. ويبقى المفتاح الثالث لتشخيص الأخطاء الحاصلة لتصحيحها، وعندها تكون المعرفة العادلة قد تحققت.