فيتو الاتحادية ،خطر على الأقليات
يثار هذه الأيام في اروقة مجلس النواب مشروع قانون يعد تمهيدا لإقامة ركائز الدولة الدينية ، فالمقترح يقضي بضم ستة من رجال الدين الى المحكمة الاتحادية العليا والتي تعد اعلى محكمة في العراق ومنحهم حق النقض على اي قرار يعتقدون انه مخالف للشريعة الاسلامية وان يكون اربعة منهم من رجال الدين الشيعة يتم اختيارهم من قبل الحوزة العلمية في النجف واثنان من رجال الدين السنة يتم اختيارهم من الوقف السني ، وذلك لإضفاء الشرعية الاسلامية على جميع مقرراتها.
وقد سبب هذا المشروع الكثير من الجدل بين اعضاء البرلمان وانقسم البرلمانيون الى طرف مؤيد معللين ذلك إن "الدستور العراقي يحافظ على هوية الأغلبية السكانية للبلد دون سلب المكونات الأخرى حقوقهم في المساواة أمام القانون وحرية الدين والمعتقد والممارسة ألشعائرية ، مؤكدا أنه "استطاع أن يوازن بين مبادئ الديمقراطية وثوابت الإسلام من خلال نص واضح لا يسمح بتجاوزها".
بينما يعارض الطرف الثاني ومنهم خبراء في القانون وناشطون مدنيون ومثقفون مظهرين خشيتهم من تحوّل العراق إلى دولة دينية بالمعنى الضيق مؤكدين ان هذا القرار "يشكل ثلمه كبيرة في بناء الدولة المدنية لمصلحة صبغة دينية متزمتة تبرز فيها العديد من المخاوف حول تهديد المبادئ الأساسية الديمقراطية والحريات وفق ما ينص عليه الدستور ، وهو طعنة قاتلة للصفة القضائية للمحكمة إذ يحولها الى مجلس سياسي يحكمه الفكر الديني بما يثير الكثير من المخاوف.
بدوري اضم صوتي الى صوت الرافضين لمنح حق الفيتو لرجال الدين للأسباب ألآتية :-
1- في تحليل لأصل المشكلة وما ستؤول اليه الأمور فان العراق سيتحول الى دولة دينية (ثيوقراطية) فكلمة ثيوقراطية تتكون من كلمتين مدمجتين هما ثيو وتعني الدين وقراط وتعني الحكم وعليه فان الثيوقراطية هي نظام حكم يستمد الحاكم فيه سلطته مباشرة من ألإله ، حيث تكون الطبقة الحاكمة من الكهنة أو رجال الدين الذين يعتبروا موجهين من قبل الإله أو يمتثلون لتعليم سماوية وكمثال تعتد جمهورية إيران الإسلامية "جمهورية ثيقراطية". يقوم مجلس منتخب نصف عدد أعضاءه بتعيين فقيه إسلامي مدى الحياة في منصب القائد الأعلى. مجلس ألخبراء ، الذي يعتبر جهة تنفيذية في ألحكومة ، يحمل مسؤولية تحديد ما إذا كانت التشريعات القانونية مطابقة لرؤيته لشريعة الإسلام بالإضافة إلى مهمته في منع الناخبين الذين لا يرى فيهم الأهلية الكافية للترشح. وتعتبر الفاتيكان دولة ثيوقراطية ففي عام 1929، اعترف بشكل رسمي بالفاتيكان كمدينة مستقلة بعد عقد اتفاقيات مع الحكومة الإيطالية. ينتخب "مجمع ألكرادلة وهو تجمع لرجال الدين ألكاثوليكيين ، الأب الذي يكون بعد ذلك رئيسا. ينتخب الأب لفترة تمتد إلى مدى حياته، ويحق للكرادلة فقط انتخابه. يعين الأب وزير الخارجية المسئول عن العلاقات الدولية. يخضع القانون هنالك لإملاء الأب واجتماعات يعقدها ألدين ولا يسمح للنساء بتولي أي منصب رسمي في الفاتيكان ، فهل يعني ذلك بان العراق سيتحول الى دولة دينية بحتة ؟
2- فيما لو تأملنا نص المادة 2/أولا /1 من الدستور العراقي والتي نصت على (لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام) . هو نص اثار العديد من علامات ألاستفهام كونه قد زج الدين في قلب السياسة دون استئذان ليعيد ذاكرة الزمن إلى العصور الوسطى التي مرت بها الدول الأوربية وما عانته من صراعات مزقت النسيج وقتلت النفوس دون وازع فالبشر كانوا يحرقون باسم الدين ويحاكمون صوريا بالاعتماد على شهادة ناقم ، نص المادة 2 / ثانيا من الدستور تتناقض مع نص المادة 42 منه والتي تنص على ( لكل فرد حرية الفكر والضمير والعقيدة ) والتي جاءت متوافقة مع نص المادة (18) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
فبعد مرور مائة عام على فصل الدين عن السياسة واحتفال فرنسا بهذه المناسبة التي كانت نقطة ارتكاز لها نحو التقدم..تم زج هذا النص الذي أعادنا إلى نقطة الصفر. عبارة (ثوابت الإسلام) ، وهي عبارة واسعة التدليل والتفسير وقابلة للتأويل ومن الخطر تفويض مصير حرياتنا وحقوقنا بيد مجموعة من الفقهاء لا توجد لهم أي معايير واضحة لاختيارهم ، فهناك من يقول إن الثوابت هي :-
وحدانية الله وملائكته واعتماد التنزيل للقرآن الكريم والإقرار بالرسل، وتحريم ألمحرمات والحدود التي وضعها الله في كتابه المفصل والزكاة والحج والصيام
ومنهم من يعزو الثوابت إلى إعجاز القرآن الكريم والاعتقاد بكماله وحفظه ، والسنة النبوية ، وان الأمة الإسلامية هي خير امة أخرجت للناس، ووجوب الموالاة بين أهل الإسلام جميعاً ووجوب المعاداة والبراءة من الكفار جميعاً ولو كانوا من الآباء والإخوان ، واعتقاد فضل هذه الأمة الإسلامية على جميع أمم ألهداية وأنهم حملة رسالة الله الخاتمة إلى أهل الأرض جميعاً وعالمية رسالة الإسلام , وسوى ذلك، وان طبقت هذه الأحكام لأستوجب التعارض والعلوية مع أي فكر ديني آخر لما تورده من احكام._ نص مقتبس من كتابي حقوق المكون المسيحي في التشريع العراقي _
3- المادة 92/ ثانيا التي نصت على (تتكون المحكمة الاتحادية العليا من عدد من القضاة ، وخبراء في الفقه الاسلامي وفقهاء القانون يحدد عددهم ، وتنظم طريقة اختيارهم ، وعمل المحكمة ، بقانون يسن بأغلبية ثلثي اعضاء مجلس النواب )،هو نص أوجب ان يكون خبراء الفقه الإسلامي اعضاء في المحكمة الاتحادية العليا متناسيا بذلك وضع أحد الخبراء من الديانة المسيحية أو الاقتصار على الخبراء دون زج الفقه الديني بالموضوع خاصة وان الشريعة الإسلامية هي مصدر رئيسي للتشريع ولكنه ليس المصدر الأول له.
اذن فهذه المادة تقضي ان يكون رجال الدين خبراء والخبير لا يجوز له ان يكون له رأيا فاصلا تأتمر المحكمة بأمره ، بل ان المحكمة لها حرية الاختيار ان تأخذ برأيه من عدمه حسب قناعتها الشخصية وعمل الخبير استشاريا بحتا ،لا ولاية له على عمل القضاء .
اذن منح سلطة النقض لرجال الدين على قرارات المحكمة الاتحادية يشكل ثلمه كبيرة في بناء الدولة المدنية لمصلحة صبغة دينية متزمتة ، وهو طعنة قاتلة للصفة القضائية للمحكمة إذ يحولها الى مجلس سياسي يحكمه الفكر الديني ويتناقض الأمر مع مبادئ الديمقراطية
لذا يمثل مقترح منح حق الفيتو لرجال الدين خطورة على اسس الديمقراطية والتي تتعارض بشكل كبير مع عبارة الثيوقراطية خاصة وأن الفقهاء ليسوا متفقين في اتجاهاتهم ومذاهبهم وآراؤهم مما يضفي على البلد صفة الصراعات المذهبية والفقهية والطائفية ويدخلنا في دائرة لا مخرج لها ليحول العراق الى دولة إسلامية ، يصعب معها تعايش الأقليات ، فعلى سبيل المثال يستوجب والحالة هذه فرض الحجاب على جميع النساء بجميع اطيافهم وأديانهم ( اسوة بإيران) وكذلك يحرم اكل لحم الخنزير ويحرم شرب الخمر ومنعه ويجب الحكم على الزانية بخمسين جلدة وقطع يد السارق .. سوى ذلك ،كون هذه الأمور تخالف ثوابت الإسلام .
لذا يستوجب حشد الجهود تجاه منع تشريع هذا القانون والذي من المؤمل مناقشته بعد عيد الفطر المبارك خاصة وان علمنا ان أي تغيير لنص المادة يستوجب استحصال اغلبية الثلثين ، واعتبار مثل هكذا مشروع كارت أحمر يطلق بوجه الديمقراطية والدولة المدنية.
المشاور القانوني
ماهر سعيد متي
2012