عنصرا اليقظة: الحرّية والقانون
طرحت التغييرات التي حصلت في العديد من أقطار الوطن العربي موضوع الحرية مجدداً على بساط البحث، ليس في سجالاتها السابقة ووجهتها الاجتماعية، مثلما هي قضية المسؤولية والالتزام وحدود الحرية وأين تبدأ وأين تنتهي؟ ولكن علاقتها بالقانون وبحكم القانون، حيث تصبح هذه العلاقة مدماكاً أساسياً وجوهرياً للتغيير والانتقال الديمقراطي المنشود، إذ لا يمكن الحديث عن تحوّل ديمقراطي حقيقي دون حكم القانون والشرعية الدستورية واستقلال القضاء .
للحرية موقع مهم في منظومة الحقوق الأساسية للإنسان، وخصوصاً الحقوق المدنية والسياسية، فبعد حق الحياة والعيش بسلام ، الذي هو حق مقدس لا يمكن الحديث عن أي من الحقوق دون توفره .
هناك أربعة حقوق وحرّيات أخذت بها المعاهدات والاتفاقيات والمواثيق الدولية التي تنظم حقوق الانسان، وهو ما نطلق عليه اسم “الشرعة الدولية” ونعني بها: “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” الصادر عام 1948 وما بعده “العهدين الدوليين” الأول عن الحقوق المدنية والسياسية والثاني عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية” الصادران عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1966 واللذان دخلا حيّز التنفيذ في عام ،1976 وغيرها من المواثيق والمعاهدات الدولية .
ويعد ميثاق الأمم المتحدة وما أعقبه من تقنينات وإضافات تطويراً معاصراً لما بدأته الثورة الفرنسية منذ ما يزيد على قرنين من الزمان عام ،1789 وقبلها ما تضمنه الدستور الأمريكي عام 1776 بخصوص حقوق الإنسان وبشكل خاص الحقوق والحريات الأساسية، والذي أعقبه الدستور الليتواني الذي صدر قبل الدستور الفرنسي بنحو أربعة أشهر، يوم كانت ليتوانيا تضم بيلاروسيا (روسيا البيضاء) وأوكرانيا وأجزاء مهمة من بولونيا وتعد من الدول الأوروبية الكبرى .
وعندما نقول الحرّيات الأساسية ، فإننا نعني:
1- حق الرأي والتعبير
2- حق الاعتقاد
3- حق التنظيم الحزبي والنقابي والمهني
4- حق المشاركة السياسية في ادارة الشؤون العامة
وقد ورد في ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ما يلي: ولمّا كانت الأمم المتحدة قد أكدت في الميثاق . . . إيمانها بحقوق الإنسان الأساسية وبكرامة الفرد وقدره، وبما للرجال والنساء من حقوق متساوية، وحزمت أمرها على أن تدفع بالرقي الاجتماعي قُدماً وأن ترفع مستوى الحياة في جو أفسح من الحرية . . . فإن الجمعية العامة تنادي بهذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” .
ونصّت المادة الأولى على ما يلي “يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق . وقد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء” .
وذهبت المادة الثانية إلى التأكيد أن “لكلّ إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، بدون تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي، أو الاصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد، أو أي وضع آخر بدون أي تفرقة بين الرجال والنساء” . وأكدت المادة 18 أن “لكل شخص الحق في حرّية التفكير والضمير والدين ويشمل هذا الحق، حرية تغيير دينه أو عقيدته وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتهما سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة” .
أما المادة ،19 فقد التزمت قضية الدفاع عن حرية الرأي والتعبير، باعتبارها حقاً أساسياً للانسان لا يمكن تقييده أو التضييق عليه، فما بالكم بإلغائه وقد نصّت على أن “لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير . ويشمل هذا الحق حرّية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقّيها وإذاعتها بأي وسيلة كانت، دون التقيّد بالحدود الجغرافية” .
ولهذا الغرض تشكّلت منظمة خاصة لحقوق الإنسان وفقاً للمادة 19 تُدعى “Article 19” المركز الدولي ضد الرقابة”، التي تؤكد حرّية التعبير وتناقل المعلومات، التي هي حقوق أساسية لا يمكن بدونها الدفاع عن أي من الحقوق الأخرى، بما فيها حق الحياة .
ومن المفارقات أن يكون بعض ضحايا حرّية التعبير عن الرأي أنفسهم الوجه الآخر للاستبداد ومنع الرأي الآخر، حين تقوم بعض منظمات التطرّف بارتكاب وممارسات عنيفة تحت زعم “إقامة الحد” باسم مخالفة بعض تعاليم الدين، في محاولة لتنصيب نفسها فوق القانون، مشيعةً نوعاً من الإرهاب الاجتماعي، مبرّرة للسلطات (التي تعد أعمالها غير مبررة أصلاً في منع الصوت الآخر وحرية التعبير) الإيغال في عمليات التشدّد والتضييق على الحريات وممارسة الارهاب، بحجة مقاومة جماعات التطرف وأعمال الارهاب الفردية، في حين تمارس هي إرهاباً حكومياً سافراً .
وباعتقادي، أن الفكر لا يقابل بالعنف أو الاغتيال أو إخفاء الصوت الآخر، كما لا يحسم بالقضاء . الفكر يُرد بالفكر، وسماحة الحوار تتسع لصراع الأفكار . أما جعجعة السلاح فلا تنتج طحيناً، بل تجعله خليطاً برائحة البارود . والحوار يجب أن يتّجه أولاً وقبل كل شيء إلى إقرار حق الغير “الآخر” في التعبير وفي التعايش وفي المنافسة السلمية، ثم لاستخلاص ما هو ضروري لإدامة السلام الأهلي واحترام حقوق الجميع .
وبتقديري أن مكان حرّية الفكر والبحث العلمي والأكاديمي، هو قاعات الجامعات وأروقة الكليات والمعاهد وحلقات الدرس والبحث والمنابر الفكرية والثقافية، وفي إطارها يتم النقاش والجدل، فهي المكان الطبيعي والرحب لتبادل الأفكار واستمزاج وجهات النظر وقرع الحجة بالحجة والدليل بالدليل والشك بالشك والبرهان بالبرهان .
وفي الجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات تبدأ الأسئلة والشكوك وتثور الانتقادات ويتم البحث والاجتهاد في محاولة الوصول إلى أجوبة مقنعة وبراهين .
أما محاكمة الفكر أو محاصرته اجتماعياً لدعاوى سياسية أو اعتبارات لا علاقة لها بالدين . فهي ليست سوى إصدار حكم بالموت المدني دون محاكمة، وهو مناقض لروح الإسلام وجوهره الذي يقرّ بمبدأ التسامح . فعدم التسامح يعني منع الاجتهاد وتحريم وتكفير أي رأي حرّ وجديد، بحجة المروق .
وتزداد اللوحة قتامة في ظل الدين الواحد حين يتم التمترس الطائفي والمذهبي وحين يُنظر إلى الآخر على أنه خصم وعدو، بل أشد عداوة من العدو الحقيقي أحياناً، وتجري محاولات لإلغاء الفِرَق والمذاهب والاجتهادات وتعميم نظرة أحادية الجانب وفقاً للأفكار الشمولية التي لا تعترف بالآخر .
ولا أظن أن مجتمعاً من دون اختلافات أو اجتهادات متعارضة مختلفة أو انقسام في الرأي أو معارضة، موجود أو أنه، وِجدَ في الكون منذ الخليقة، بل أستطيع القول إن مجتمعاً بلا اختلاف أو تمايز أو خصوصيات، هو من صنع الخيال، ولا وجود له على أرض الواقع، بل إنه مجتمع ميت إنْ وجد، فالتماثل ضربٌ من المحال .
التعددية والتنوّع وحق الاختلاف والاجتهاد هي بعض عناصر يقظة الوعي ومن أركان تنشيطه بما يساعد على التطوّر والتجدّد ولا تستقيم هوية “الأنا” من دون هوية “الآخر” .
وجاء في القران الكريم “ . . . واختلاف ألسنتكم وألوانكم لآيات للعالمين”، سورة الروم -آية 22 . والاختلاف لا يلغي الائتلاف بالطبع “ولو شاء ربّك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” سورة يونس - الآية 99 ، وجاء في سورة البقرة -الآية 256 ، “لا إكراه في الدين قد تبّين الرشد من الغيّ . . .” وجاء في سورة الكهف - الآية ،29 “وقل الحقّ من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر . . .” .
وسمح الإسلام بحرية الخطأ إذا لم يكن مقصوداً، خصوصاً إذا استهدف الاجتهاد الفكري واستنباط الحلول والأحكام، حين أكدّ الفقه الإسلامي أن “المجتهد إنْ أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر الاجتهاد” بمعنى أن الخطأ مع الاجتهاد يتحوّل إلى حسنة، لأنه محاولة لاستخدام العقل . وكانت بعض الفرق الإسلامية قد أكدت دور العقل، بموازاة النقل خصوصاً فيما يتعلق بكل ما له علاقة بشؤون الحياة كالمعتزلة والصوفية وغيرهما.
وذهب الإمام الشافعي للقول “رأيي على صواب ولكنه يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ، ولكنه يحتمل الصواب” . وهو ردٌ بليغ على أفكار التعصب والانغلاق والعنف وعقلية التحريم والتجريم وفرض الرأي، التي قادت من الناحية السياسية إلى احتكار الحكم وتبرير مصادرة حقوق الآخرين تارة باسم القومية أو بحجة الصراع العربي - “الإسرائيلي”، وأخرى باسم الطبقة العاملة ومصالح الكادحين، وثالثة باسم الدين، لإسكات أي صوت ولتسويغ فكرة الاستئثار وادعاء امتلاك الحقيقة .
صحسفة الخليج الاماراتية ، الاربعاء 21/8/2013