الحوار... ركيزة اساسية لوثيقة "الأخوّة الإنسانية"
المونسنيور د. بيوس قاشا
في البدء...
عُرف الشرق بمسيحييه ومسلميه، فهما توأمان لا ينفصلان في مجتمعاتنا، وأي مساس بأحدهما يضرّ الآخر ويشوّه وجهه وحقيقة إيمانه ، فقد قال الكاردينال بول بوبار رئيس المجلس البابوي للحوار بين الأديان يوما:"إنّ العالم بحاجة إلى مسيحيين ومسلمين يتبادلون الإحترام، كما يؤدّون شهادة المحبة، ويعملون معاً وقُدُماً في درب الحوار من أجل عيش السلام في بلاد الله الشاسعة، نعم والحاجة اليوم مُلحّة أكثر ممّا مضى".
الحوار... تعايش
إن الدين رسالة مقدسة تحمل المؤمن الى الحوار عبر مسيرة التعايش مع الاخر المختلف ، ومن أجل تكريس القيم والمُثُل العليا، وإذا كان عكس ذلك فقد يكون حالة سلبية وخاصة عندما يُدار بأيدي مجموعة من المتعصبين وأصحاب الفتاوى والذين نصّبوا أنفسهم ناطقين بلسان الحق، فهم يحلّلون ويحرّمون، ويفسرّون جانباً ويغفلون جوانب، كما يرفعون شعارات التعصب وإلغاء الآخر، ويدعون إلى فرض لائحة من اللاءات والمحرَّمات، وقد يتحول إلى قنابل عنقودية مؤقتة لتفجير التناقضات والصراعات الدينية والمذهبية والطائفية، ويصبح الدين حينذاك أداة سلبية وليس غاية كما ينبغي أن يكون.
الكنيسة ... والأبواب
نعم ، إن طريق الحوار دعت إليه الكنيسة ولا زالت عبر أحبارها وعلى مرّ أزمنة التاريخ، وها هي اليوم مع البابا فرنسيس تظهر عمق رسالتها الإنسانية في الأخوّة بتوقيعه في الرابع من شباط الماضي وثيقة "الأخوّة الإنسانية" مع الدكتور احمد الطيب شيخ الأزهر الشريف وفي دولة الامارلات العربية المتحدة ، وهذا ما يؤكد أن الكنيسة كانت ولا زالت وستبقى أبوابها مفتوحة للحوار، من اجل مد جسور التواصل عبر الثقة المتبادلة بين الشعوب، والتعايش من أجل السلام مع جميع الديانات، إيماناً منها بأن السلام لا يصنعه إلا الحوار،وقد جاء في الوثيقة "الاخوة الانسانية " أنَّ الحوارَ والتفاهُمَ ونشرَ ثقافةِ التسامُحِ وقَبُولِ الآخَرِ والتعايُشِ بين الناسِ، من شأنِه أن يُسهِمَ في احتواءِ كثيرٍ من المشكلاتِ التي يعاني منها البشربسبب الاقصاء والطائفية . وهذا يحث جميع كبار الزمن ورؤساء المسيرة الدنيوية ومفكري الايمان ورجال العبادة إلى سلوك السبيل الذي يجمعهم من اجل اقامة حوار صادق مبني على الثقة المتبادلة لرسم خريطة العيش المشترك والمواطنة عبر العدالة في توزيع خيرات الوطن . وهكذا يكون سبيلنا من أجل الحقيقة والحياة لانه حوار صادق، حوار مبني على احترام وكرامة كل كائن بشري وحريته الضميرية عبر إيمانه ومعتقده ، وليس الانتماء الى الاخر حسب مشيئته ، وبالخصوص بين الديانتين المسيحية والإسلامية.
وثيقة ... وحوار
إن الوثيقة تدعونا اليوم جميعاً إلى أن ندرك مفهوم المواطنة كي يبنى على اسس وركائز امينة لصياغة حقيقة السلام وسبل الحوار الاكيد والمحب ، فعبره تزول الفوارق وتتلاشى الأحقاد، ويرى كل إنسان في الآخر تتميماً وليس نقيضاً، وبذلك يحفظ المصالح المشتركة دون اللجوء إلى العنف، كما يعمل على بناء وإقامة علاقات حقيقية وصادقة، كما يحث الجميع إلى سبيل الصفح والمصالحة... وما هذه العلامات إلا علامات لبناء السلام الحقيقي الذي تنشده شعوب الأرض عامة وشعوب المنطقة خاصة.فهي جسر عبور آمن الى المختلف الاخر .
الحوار ... ضرورة
لذا أمام هذه الوثيقة بإمكاننا أن نقول: إن الحوار لا يمكن أن يكون خياراً إضافياً بل هو ضرورة حيوية يتوقف عليها مستقبلنا ومستقبل وجودنا وشراكتنا في الإنسانية والأخوّة الصادقة، وشهادة لإيماننا بالله الخالق الذي اوجدنا بحكمته الالهية لنحافظ عليها . وما هذه الا دعوة لشعوب المنطقة وبالخصوص إلى جميع المسيحيين والمسلمين للذهاب قُدُماً في هذا السراط مهما اشتدت الصعاب ومهما علت الأصوات من اجل بناء حوار حقيقي مبني على حقيقة التعايش وقبول الآخر المختلف، وكما يقول البابا بندكتس السادس عشر: إن الحياة البشرية هي مُلك لله وحده، ولذا فكل مَن يتعدى على حياة الإنسان فكأنه يتعدى على الله نفسه، لأن الحياة ما هي إلا هبة من عند الله وهي عطيته وصورته. لذا فمهما كان الحوار طويلاً أو قصيراً، صعباً أو سهلاً فهو رسالة سماوية، رسمها الله لنا من أجل العيش المشترك. فمن هنا ندرك ان الحوار ما هو الا الركيزة الأساسية للاخوة الانسانية تحت خيمة الخالق الواحد ، رب السماء.
الحوار ... والفتن
نعم، إننا اليوم بحاجة ماسة إلى آلية عميقة لتفعيل الحوار وفق الإقرار به وبتعدديته، فمن المنطق أن يتوصل البشر إلى قانون أو عقد إنساني يمنع التعرض لمقدسات الناس جميعاً ما دام جميعهم مؤمنين بأنبيائهم ورسله، فإلههم إله واحد. فتفعيل الحوار يعمل على تحاشي زرع الفتن الكبرى التي تعمل عليها أيادٍ بغيضة وسوداء تعيش فقط على صناعة الفتن والحروب والإقصاء، فالمسيح الحي يقول ، "إذهب وصالح أخاك، ثم عُدْ وقدّم قربانك"، يعني "إذهب وحاور أخاك لكي يتطهر القلب وتصفى النية ثم تقدم الذبيحة" ، كما يقول الإمام علي بن أبي طالب:"والله لو ثُنِيَت لي الوسادةُ، لَقَضَيْتُ بينَ أهلِ التوراةِ بتوراتِهِم، وبينَ أهلِ الإنجيلِ بإنجيلِهِم، وبينَ أهلِ الزبورِ بزبورِهِم، وبينِ أهلِ القرآنِ بقرآنِهم"... وأخرى "النّاسُ صِنْفانِ، إمّا أَخٌ لَكَ في الدِّيْنِ، أو نَظِيرٌ لَكَ في الخَلْقِ"، ممّا يعني تجسيداً حقيقياً لعدم جواز تكفير الآخر.
الخاتمة
وفي الختام ، فالحوار لا يعني الا الاحترام، ملؤه الشراكة الإنسانية والأخوّة البشرية. فالإنسان هنا وكيل لربّ السماء وعلى الوكيل أن يكون أميناً في حمل سلاح الحوار ، وإلا سنكون في عِداد تجّار الحروب باسم الله والدين،وتكون ارضنا ساحة للحروب والقتال ومثيرة للعنف والارهاب واراقة دماء الابرياء وما يزيد في الالم انها ستكون "عبر سياسات التعصب والتفرقة كما تقول الوثيقة والتي تعبث بمصائر الشعوب " . ففي ذلك سنميت الخليقة التي أبدعها الله بالمتاجرة بكتب السماء وبآياتها الكريمة. والويل لنا إذ جعلنا من أرضنا مكاناً للفساد والعنف والحروب ، فقد يكتب التاريخ عنا مأساة تدمير الآخر المختلف، فلنعلم ان الأرض منها جُبلنا كلنا، والسماء خيمة لدياناتنا." ولا يمكن تاجيج الكراهية والتعصب" لان الوثيقة هي لنا " نداء ومطلب كلِّ ضَمِيرٍ حيٍّ ليَنبذُ العُنْفَ البَغِيضَ والتطرُّفَ الأعمى" ، وكما هي "لِكُلِّ مُحِبٍّ لمَبادئِ التسامُحِ والإخاءِ التي تدعو لها الأديانُ وتُشجِّعُ عليها " من اجل رسالة سامية الا وهي الحوار الامين والصادق ، الذي يقيم جسوراً ويفتح سبلاً للتعايش وزرع بذرات السلام من أجل أن نكون تاريخاً لمستقبل أجيالنا.وما رسالة الاخوة الانسانية الا الحوار ، انه لبنة البناء وطريق الحياة وسبيل العيش المشترك وضميرالعدل والحرية وتلك حقيقة الاخوة فالحوار من المؤكد ما هو الا ركيزة للاخوة الانسانية. نعم وامين .