الحزين الذي لم تفارقه الإبتسامة
لا يقابلك إلاّ بابتسامة عريضة، وهو الرجل الذي يقارب على انتهاء عقده التاسع، فعلى الرغم من مسحة الحزن التي تتجمّع خلف عينيه الذكيتين اللامعتين، إلاّ أنه سرعان ما يبدّدها، فيبدو بشوشاً مثل طفل، متطّهراً من كل ما يخدش براءته.
على مدى سنوات الخمسينيات والستينيات شغل أرقى المواقع الرسمية والمدنية في العراق، خبيراً اقتصادياً ونفطياً ووزيراً، وقبل ذلك سياسياً من الطراز الرفيع، امتاز بالاعتدال والوسطية ولم يكن ميّالاً للعنف والقسوة، وكانت العروبة هي رابطته الإنسانية الحقوقية وهويته مع بني قومه، فكان عروبي الهوى والمشاعر، عراقي الانتماء والتكوين، إنساني النزعة.
ارتبط خلال تلك السنوات بعلاقات متميّزة مع أهم الشخصيات العراقية والعربية، وكان محطّ ثقتها اتفق أو اختلف معها: جمال عبد الناصر وكامل الجادرجي وعبد الرحمن البزاز وخير الدين حسيب ومحمد مهدي كبّة وصدّيق شنشل ومحمد حديد وعبد اللطيف الشواف وحسين جميل وعبد السلام عارف وعبد الرحمن عارف وناجي طالب وجلال الطالباني ومسعود البارزاني وعبد الفتاح ابراهيم ومحمد بحر العلوم ومحمد حسين فضل الله وسليم الحص وعبد الرحمن اليوسفي وأحمد بن بلّه وحافظ الأسد وعشرات من الأسماء والشخصيات الثقافية والفكرية اللامعة.
دخل الوزارة وخرج منها وعاد إليها وتركها، وتحالف وانقلب، واتفق واختلف وأصاب وأخطأ وعرف حياة السجن ، مثلما حصد المنفى نحو نصف عمره، وعاش العمل الميداني المدني ورئس منظمات وجمعيات ونقابات واتحادات عراقية وعربية، مثلما كان له شأن كبير وباع طويل في العمل الدولي، سواءً في الأمم المتحدة وهيئاتها أم في المنظمات الدولية المدنية، وفي كل تلك المجالات ترك بصمة واضحة، وكان نظيف الكف وعفيف اللسان، وخلافه حضارياً ولغته وقورة، وسيلته لخوض الصراع تنسجم مع غاياته الشريفة، لا يردّ الإساءة بمثلها، ويكاد أن يصبح رمزاً للتسامح والخلق الرفيع، في مجتمع تنتشر فيه ثقافة اللاتسامح والثأر، هكذا يأتيك شفيفاً مثل الريح الخفيفة التي تسبق المطر.
لم تترك فيه حياة السجن التي عاشها لعام وشهر أية ندوب نفسية أو حقد أو كراهية أو رغبة في الانتقام، حتى إزاء سجانيه، وكثيراً ما كان يبدي عطفاً عليهم، فقد امتلك روحاً رياضية عالية، وهو من القلائل الذين عرفتهم من كان يحمل هذا القدر من الغفران، باعتباره أحد المثل العليا التي يؤمن بها. ولم يدع ردّ الفعل أو التشفي يتسلل إلى قلبه، بل قابل حتى المسيئين بالتسامح، دون نسيان، إذ لا بدّ لدائرة الضوء أن تكون واسعة لا بقدر ما يتعلق الأمر به، بل إزاء كل انتهاكات وتجاوزات تنتقص من إنسانية الإنسان.
لقد دفعه سجنه إلى التفكير بتأسيس منظمة عربية مهنية تدافع عن حقوق الإنسان وتنشر ثقافته، وعلى هامش اجتماعات مركز دراسات الوحدة العربية وندوة أزمة الديمقراطية في العالم العربي في ليماسول (قبرص العام 1983)، إلتأمت المنظمة العربية لحقوق الإنسان وأصبح نائباً للرئيس وبعد ذلك رئيس لما يزيد عن عقد من السنين.
وحينما شعر أن أداء المنظمة التي ساهم في تأسيسها أخذ بالتراجع متجهاً نحو الشخصنة والانفراد، أعلن من على منبرها في الرباط في مؤتمرها الرابع في العام 1997 استقالته وعدم ترشيح نفسه، واضعاً حدّاً بين المهني والسياسي، وبين العمل الجماعي والفردي، خصوصاً وقد تفاقمت قضية الاختفاء القسري لمنصور الكيخيا في القاهرة العام 1993، وعلى الرغم من صداقته المديدة مع محمد فايق الذي قضى عشرة أعوام في السجن، فقد أعلن ما كان يؤمن به على الملأ منسحباً بكبرياء فارس وأخلاق نبيل، واستمر في صداقته الحميمة، وفي دعمه للمنظمة، ولاسيّما في المحافل الدولية، حيث يعيش بالقرب من المقر الأوربي للأمم المتحدة، وبذلك ميّز بين الاختلاف والمبادئ وبين الصداقة والمهنية. كان يأمل أن يتم التخلّص من حكم الاستبداد في العراق بتعاون وطني واسع، وفكّر بحاجات العراق في الميادين المختلفة، لاسيّما بعد أن بدأ الحصار يفعل فعله، فدعا نخبة من الاختصاصيين لتأسيس هيئة استشارية وعقدت عدداً من الاجتماعات طبع بعضها في كراسات، وحين دعي للانضمام إلى قيادة المعارضة كان يمثل الصوت العقلاني، فوقف ضد الحصار وضد ضرب العراق وضد القرارات الدولية المجحفة. وحينما دعاه السيد محمد بحر العلوم لإلقاء محاضرة في لندن في مركز آل البيت العام 1992، خاطب الجمع المتحفّز للانقضاض على السلطة لقضمها: لم يبقَ لصدام حسين حلفاء، فلا حلفاء عرب ولا دوليين، غربيين وشرقيين، مثل العام 1980 إبان الحرب العراقية – الإيرانية، والحصار بدأ يفعل فعله، وشبكة الأتباع والمريدين الداخليين والعرب بدأت تشحّ بحكم شحّ المال، وإعلامه أصبح غير مؤثر وبلا صدقية، وسلاحه متقادم وغير كاف، وحزبه أصبح ضعيفاً ومتآكلاً وجيشه غير مضمون وباستثناء بقاء جهاز المخابرات مرعباً ومخيفاً على المستوى الداخلي، وهو الآخر تسرّبت إليه الكثير من الشكوك ، لكن له حليف جديد وهو “المعارضة العراقية” بخطابها الذي يصبّ في خدمته، ولاسيّما “المجموعات” التي تؤيد استمرار الحصار الدولي وتدعو الأمم المتحدة إلى تشديده، وتدافع عن استخدام القوة ضده وتطالب الغرب بالمزيد من القرارات الدولية المجحفة، الأمر الذي سيؤدي إلى استمرار حال البؤس والمديونية والفوضى حتى بعد الإطاحة بالنظام.كان جريئاً وواضحاً ويتحدث بعفوية وجدانية وبحرارة مناضل مسؤول، قلبه يكاد يُدمى على ما أصاب العراق من خور وتمزّق، مثلما كان يعرف بخبرته ومعرفته ماذا يعني استمرار الحكم الدكتاتوري، وعندما تقرر عقد اجتماع تمهيدي في فيينا لاختيار رئاسة ثلاثية كان هو الأول فيها، إضافة إلى مسعود البارزاني الذي التقاه على أمل عقد اجتماع موسّع ولجنة تحضيرية للتهيئة لذلك بكتابة بيان، لكن تلك المحاولات تم صرف النظر عنها، ولاسيّما بعد تسريبات مسيئة لحملة خفية ضده في الصحافة العالمية.
إنه المهندس، بل نقيب المهندسين الأسبق الذي علّمه علم الهندسة أن السياسة تحتاج إلى بناء قوي، مثلما تحتاج إلى أدوات ووسائل، خصوصاً وكان الوصول إلى الهدف يقتضي استخدام جميع الامكانات مباشرة أو بصورة غير مباشرة، فحاول استثمار علاقاته الدولية والعربية وصلاته الدبلوماسية عشية الاحتلال، ونظّم مع عدد من زملائه زيارات إلى أمير الكويت وملك الأردن ورئيس مصر لشرح وجهات نظر جزء من المعارضة التي تسعى للتغيير على أساس مشروع وطني، وعندما أطيح بالنظام بفعل الاحتلال. ونصّبت قوات التحالف بول بريمر حاكماً مدنياً للعراق، شعر بالخديعة التي دفعته إلى الخيبة، وامتلأ حلقه بالمرارة، ولم يتوانَ بعد زيارة بائسة إلى بغداد لم تدم أكثر من عشرة أيام، إلى العودة من حيث أتى، فكيف لوطني عروبي أن تكون مرجعيته السياسية بول بريمر الذي يأمر ويُطاع بلا حدود، فانسحب بصمت في حين راح الآخرون بالابل. لعلّه نموذج نادر للأصالة وعزّة النفس الوطنية الصادقة بلا رتوش أو مزاعم، وظلّ يملّح كل مواقفه بابتسامة شفيفة فيها طرف من الحزن العميق والألم الممض.
قبل عقدين من الزمان زرنا بصحبة د. خير الدين حسيب والحزين الذي لا تفارقه الابتسامة، محمد حديد في دار للعجزة في لندن، وتجاذبنا أطراف الحديث معه، ولاسيّما الإسراع في كتابة مذكراته، وكان هو ينتظر أيامه الأخيرة، ودّعناه على أمل اللقاء، وعند الباب إلتفت إليّ قائلاً هذا هو مصيرنا، وكأنه يتنبأ بما سيؤول إليه وضعه، حين فارقته رفيقة عمره، وانكفأ هو يلوك أحزانه ويمضغ وحدته، مفضلاً العزلة بعد احتلال بلده، وهكذا أراد له القدر أن يقضي أيامه الأخيرة في دار للعجزة، في مواجهة جبل شاهق مكسواً بالثلج الأبيض مثل قلبه، خصوصاً وقد انمسحت ذاكرته ونسي التفاصيل، وعاد من جديد طفلاً جميلاً ينتظر أن تزوره الحقيقة الوحيدة المطلقة، وما عداها كل شيء نسبي!
إنه الحزين الذي لا تفارقه الابتسامة !؟
إنه أديب الجادر
{ مفكر وأكاديمي
صحيفة الزمان العراقية، الثلاثاء 18/2/2014